Translate

الجمعة، 22 يوليو 2022

"لا آخرَ للجراح" .......... حميد محمد الهاشم/ العراق


 "لا آخرَ للجراح"

حميد محمد الهاشم/ العراق

في اللحظة تلك، تلك التي لا تطيق الوصف ولا الوصف يطيقها ، وقعت عيناي عليها، كنت مسلتقياً على ظهري، بل مرمياً ، أوجاع الندوب تصرخ في قفاي ، اختلط ما رأته عيناي مع صراخها، بعض الدماء تلطخ أنفي ، وما زالت بعض فقاعاته الساخنة تقرقر من فمي، كدمة قوية جعلت حاجبي يهبط منتفخا على عيني اليسرى.
التفت مائلا برأسي المُلقى على الأرض نحوها، بينما رفعتُ يدي مرتعشة؛ لتمسح دمي.
الزنزانة رطبة الجدران ،والبلاط مغبرو بارد ،غفوتُ في إلتفاتتي،في تساؤلي وفحيح أوجاعي ،أطبقتُ عيني بهدوء؛ لأدخل في نصف غيبوبة.
قبل خمسة عشر عاما كنت قد قرأت " الجراح والملح" ، لأكون صادقا ،فصلين فقط قرأتهما. أخذتني إلى الجراح ولم تُعِدني منها. لا ملح أبداً أخذتني إليه، الحق أقول أنني لم أصل إلى طينهِ ،فيما بعد عرفتُ أن آخر فصل هو من سيتحول فيه الطين إلى الملح.وفي العشر صفحات ما قبل الأخير يكون الجرح قد توسط ما بين الطين وما سيؤول إليه.لم أكمل إلاّ فصلين إذ جيء بجثمان صديقي، من حرب حصلتْ عبثا أو سهوا.
مقطوع الساقين، وشظية أو حزمة شظايا غُرِستْ في أحشائه.
فأيّ جرح وأيّ ملح سأقرأ، ركلتُ الرواية بقدمي وتناثرت كل الفصول.
الحلم أحيانا يخدم جلالة الذات ، ينتفخ كإمرأة حبلى ، والوليد لا يعرف متى يغادر مشيمة الوهم، ربما شهور، ربماسنوات ، ربما تتغير الحياة فلا نوراً يرى،فيظل المرء يحمل ذاتا مكّورة تحمل جنينا لا يريد أن يأتي ، أو يريد لكنه لا يستطيع.
_ ماذا تقول يا حسّان..بالله عليك كُفّ عن هذا الهراء ، في الجامعة كنت تهذي، نحن في الجيش الآن ،الجيش لا يناسبه هذا الهذيان ، أيامنا مثل البارود ، لا ندري متى تنفجر فينا أو علينا.
أنا حسّان بالطبع ،وهذا صديقي ،يلسع وعيي بنصائحه البالغة الرشد.
_ هل عدتَ الى هذه الرواية...ألم تقل إنك تكرهها،منذ إن جِيء بصديقك مقطوع الساقين ، فكيف عدت لهذا الهراء مرة أخرى.
في شتاء قارس البرد ومجنون المطر ، طفحتْ بالماء حفرتي المحشور فيها_ الخندق العسكري_ ، طفت أوراقها أمامي، كنت قد أكملت نصف جراحها وملحها، لملمتها ووضعتها قُبالتي على الطين ،على حافة الموقع،قرب فوهة بندقيتي،و التي كانت برفقتي في ذلك الفجر ،مرة أنظر إلى فوهة القتل، ومرة أنظر إلى الأوراق المسجاة ،تغطيهما السكينة الباردة المبللة.
فوهة وأوراق متجاورتان معا.
كنتُ قد تناسيتُ كراهيتي.
هكذا، إني تناسيت، فالتهمتُ نصفها قبل المطر، وبعد المطر كنت عازما أن أصل إلى خاتمتها، خاتمتها فيّ، أو خاتمتي فيها.
وشُيتُ بهذا من قبل مُخبر سريّ،" حسان يترك البندقية وينشغل بالملح".
_ " سيدي هذا كذب.. أصلا أنني أكرهها..لكن الفراغ....".
قلتُ هذا لضابط التحقيق.
أي فراغ هذا؟!
الفراغ كان كاملا ليومين في سجن الوحدة العسكرية، " هَدْنِي بلاش".
لكن تُمَنعُ إجازته لثلاثين يوما.
أووففف.
مرة أخرى ركلتها، ومرة أخرى سحقتها بقدمي، حتى دفنتها في الطين، حتى كأني أسمع أنين أبطالها.
تجاوزتْ الوشاية الأولى سنتها الخامسة ، ليدخلني مُخبر آخر وشاية ثانية. وشاية مدنية، أنا بأنفي وفمي وحاجب عيني وخرائط ظهري شيء من تفاصيلها الآن.
حسان _ والذي للأسف هو أنا_ قال مرة:
أن رأس الأمة حين يعشعش فيه قمل الجبروت ،فان تلك الأمة لن تكون لها أقدام قادرة على السير بها..وعاجلا أو آجلاً، أنها ستفقد رأسها وأقدامها معا ،ولن يبقى إلاّ القمل.
لا أتذكر أن هذه الكلمات لي، لكنها وضُعِتْ لي.. أو ربما من هذيان لي في غير خلوته،والتي أحياناً تلتهبُ فيها قريحتي.
خرائط قفاي ايقظتني، عيناي تنفتحان بألم ونعاس شبه مطبق، أنسللتُ من قيلولة الإغماء الاضطراري.
يختلط الأنين لعشرة من سكان هذه الزنزانة الموبوءة بتلك الجراح مع نظراتهم لي.
زحفتُ صوب الزاوية ،العشرة مع أناتهم يحدقون، ، عيونهم تتساءلُ عن مقصد زحفي، " ماذا يفعل هذا المعتقل المدمى".
اقتربت منها..، هي..هي..!!
آخر فصل لم يكتمل.
كيف جاءت هذه الرواية إلى هنا ؟!
لا تفسير أقنعني أو سيقنعني بوجود هذا الصديق والعدو في زنزانتي هذه.
ولا تفسير أقنعني أو سيقنعني،..لماذا هذه تلاحقني ؟! أم أنني الذي الاحقها ؟
مليئة هذه المرة ببقع صفراء ،وبثور سوداء، قضت الجرذان والفئران وربما المعتقلون حاجتهم على أوراق صديقتي المزمنة.
كل ما في الزنزانة اللعينة من اللعنة واللعناء منشدّين نحوي.
دهشة..ارتياب.. علامات استفهام وتعجب، بينما رحتُ أتلمس وأقلّب بهدوء تلك الأوراق مع خرائها، وبيدي الأخرى المرتعشة أكرف الدم المتجمد بين أنفي وفمي،ممزوجا بمخاط أولعاب معه، وكأنني أتهيأ لإتخاذ قرار ما.
ماالحكمة من حياةٍ تبدأ من الطين..ثم الملح..ثم الجرح، لتنتهِ إلى القمل والخراء.؟!
لابد أن أعرف.. أن أعرف ما تبقى. ضحكت مع نفسي وأنا أسمع نفسي:" الوقت مناسباً جداً لإكمال الفصل الأخير."
انتهت.
حميد محمد الهاشم/ العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة