Translate

الخميس، 15 ديسمبر 2022

قراءة نقدية لرائعة الأستاذة فوز حمزة ( لعبة في وطن ) بقلم الدكتور سعد جبر شاعر وكاتب وناقد - عميد كلية الإعلام بجامعة باشن

 النص

 لعبة في الوطن


الجو شديد الحرارة والشمس عمودية كعادتها في مثل هذا الفصل حتى إنه شعر بقطرات العرق تنساب من كل مكان في جسده، كل ذلك لم يمنعه من البحث عن مجلة الوطن في عددها الأخير الصادر يوم أمس وكان الجواب واحدًا لدى أصحاب المكتبات في شارع المتنبي: لقد نفدت أعداد المجلة حال وصولها.
ما العمل الآن؟ تساءل حائرًا.
استمر بالسير داخل الشارع رغم الزحمة مواصلًا البحث عند باعة الكتب والصحف ممن يفترشون الرصيف. أخيرًا عثر على مجلته المفضلة.
توجه بالسير نحو يمين نهاية الشارع حيث المقهى الذي يعج برواده من المثقفين والأدباء الذين ردوا عليه التحية من بعيد قبل أن يتمكن من إيجاد مكان خالي في أقصى المقهى قريبًا من الموقد الممتلئ بقوارير الشاي ولوازمه.
ارتشف قليلًا من شاي الحامض بدون سكر بعد أن وضعه أمامه نادل المقهى الذي راح ينادي بأعلى صوته ملبيًا طلبات الزبائن .
خشخشة أوراق المجلة وهو يقلبها بين يديه ضاعت وسط موسيقى قادمة من مكتبة تحتل أحد أركان المقهى تبث أغنية على طرف جناحك يا حمام لنجاة الصغيرة بصوت مغنية أخرى لا يعرف اسمها.
تصفح مواضيع المجلة التي لم تعد تثير شهيته للقراءة ما عدا الصفحات الأخيرة التي كانت تتضمن نكت من قراء المجلة واحجيات رياضية وعمود لأحدهم يسرد فيه موقفًا طريفًا تعرض له.
سال لعابه وهو يرى المربعات الفارغة في فقرة الكلمات المتقاطعة. أخرج من جيبه قلم الحبر الجاف ليمارس هوايته التي تعلمها منذ نعومة أظفاره.
أصبح مدمنًا في ممارسة اللعبة حد هذه اللحظة. يشعر وهو ينظر للمربعات الفارغة كأنها تستنجد بذكائه ليملأها فتظهر بعدها الكلمة المطلوبة. في هذا العدد كان اسم دولة توجد فيها مناجم الفحم هو اللغز.
وضع اسم فريق كرة قدم رياضي إنجليزي عاموديًا، هذه الحروف ستسهل عليه المهمة التالية في معرفة اسم الدولة التي تشتهر بزراعة المانجو في المربعات الأفقية.
ارتشف قليلًا من الشاي بعدها كتب اسم ملاكم عالمي مسلم معتزل، أخذ ينقل نظره بين السماء والمجلة محاولا تذكر اسم مطربة سورية يبدأ اسمها بحرف الميم وهو الاسم الذي ظهر له في العمود التالي فكتب بسرعة اسم رئيس أميركي من أصول أفريقية عاموديًا بعد أن ظهر له الحرف المشترك. لم يكن صعبًا عليه إيجاد مرادف كلمة الحب أما المربعات التالية تطلبت منه البحث عن عكس كلمة ظلام والمربعات الأخيرة لم تسرق من وقته سوى ثوان عديدة ليعرف اسم الوباء العالمي المنتشر حاليًا.
نسي كل ما يحيط به منشغلا بتلك المربعات التي تقاطعت بذات الحروف مع مربعات أخرى،ليست بالمهمة المستحيلة. كانت فقط بحاجة لبارع مثله قضى حياته كلها في تعلم أسرار اللعبة ليتوصل إلى الحل.
شعر بالزهو والفخر وهو يرى كلمة الصين التي ظهرت له من تلقاء نفسها بفضل ذكائه وثقافته.
كان قد غادر المقهى وضاع بين رواد الشارع حين ناداه النادل قائلًا:
لقد نسيت الوطن!

القراءة النقدية 
العنوان ( لم تصدمنا صراحة التعبير المباشر المختصر ولم تصرفنا عن مطالعة المحتوى رغم صراحتها ووضوحها فهذا إعجاز أولي ، لكننا لا ننكر لسعة حروف التضاد حين تقرن الكاتبة لفظة اللعبة مع بساطتها وما تحمل من معاني التفاهة مقارنة مع لفظة الوطن وهنا ندق مبكرا ناقوس الانتباه لنستمع جيدا لجرس التضاد بين الجد والهزل وبين السمو واللاشيء)
اللغة ( لغة بسيطة مليئة بالمفردات العادية الموحية بشيوع الكارثة التي تحكي لنا عنها ومع بساطتها المقصودة للوصول لقلب وعقل القراء إلا أنها لم تخل من جماليات لفظية كمثل (تنساب - يعج - بقوارير - ملبيًا - خشخشة - شهيته – أحجيات - مرادف - بالزهو - تلقاء )
الوصف ( حين تعمد الكاتبة للوصف فإنها تصف بدقة وإحساس تصف الاشياء من داخلها لا من خارجها تصف الزمان والمكان والاشياء والأصوات فحرارة الشمس جعلت قطرات العرق تنساب كأنها تراها وكتب الرصيف وامتلاء المقهى بالمثقفين والأجمل هو الوصف المساعي للأصوات وهنا يجب علينا أن نقف احتراما لهذا الجمع بين مفردات المكان الذي ضم باعة ومثقفين وشوارع وموسيقى ومفردات شعبية ثقافية ملأت الأجواء بالحركة والنشاط واجمل من الأجمل هو ترك الوصف كما ترك البطل الأشياء المهمة لينشغل بالمربعات الفارغة فقد تركت الكاتبة الوصف بعد ذلك لتنزل معه لساحة المعركة التي حمي وطيسها وثار غبارها وانكشف عن لا شيء تركت التفاصيل لتغرق مع البطل والقراء في مربعات سحرية غطت بها جوانب العالم شرقا غربا اقتصادا وسياسة ورياضة واجتماعا لتعود لتقرع أسماع الدنيا بمسك الختام وحبكة النهاية )
السرد ( تسلسل انسيابي وحركة طبيعية معتادة تتحرك فيها الأحداث بحركة البطل فتسرع مع خطواته وتتوقف مع صعوبات البحث عن الوطن واهتمامه بالوطن يجعل الحركة وجدانية أكثر منها على الرصيف وبين البحث عن الوطن والبحث عن مقعد في المقهى واستقرار في أي مكان وسلام وتحية مع المثقفين وبين شرب الشاي والخشخشة والتفكير والانتشاء والنهوض والنسيان تعرفنا على امتلاك الكاتبة لقيادة مراكب السرد بهدوء متحرك وحراك يتطلع للاستقرار وينتقل بكل سلاسة بين مشاهد المسرح الكبير الذي رسمته أحداث القصة ببراعة )
الحوار ( خلت القصة من الحوارات الطويلة فمع الباعة نفدت ومع نفسه جملة متأففة ومع عقله حوارات الإجابات لملء المربعات الفارغة ومع البائع حين لم نسمع الجواب ومع المثقفين حين ردوا السلام – وهذا الاقتضاب في الحوار يوحي بأن المجتمع في نظر الكاتبة يفتقر لحوار جاد شعبي يملأ المربعات الفارغة والفجوات التي تتسع كل يوم بين جميع أفراد المجتمع في كل بلادنا مع شديد الاسف )
الشخوص ( البطل مسيطر موصوف معروف والباعة كالعادة والنادل بان من بصوته ونجاة الصغيرة ومقلدتها ربما هي (المطربة هيفاء فرجاني ) والمثقفين رسمت صورهم بخطوط مبهمة عامة في الغالب وفي المربعات الفارغة شخوص أخرى ذات دلالة رائعة على انصرافنا عن شخوص مجتمعنا إلى الاهتمام بشخوص عالمية ( المغنية من سوريا وبطل الملاكمة عالمي والرئيس أمريكي ووباء كورونا عالمي والصين تظهر وحدها بدون حاجة لأحد أن يظهرها ، حتى الحب والنور أصبحا ضمن المربعات الفارغة وليس صلب الحياة ونقاش المثقفين على الملأ وفي هذا دلالة وتلميح أقوى من كل تصريح )
الحبكة وحل العقدة : وإني لأرى الحبكة واضحة من البداية من اسم الجريدة حتى صياح النادل حيث صناعة الكاتبة وغزلها للحبكة مع أنه يبدو تلقائيا إلا أنها حبكة مدبرة بعناية حيث بدأت والنهاية بين عيني قلمها ، ومع طول الصناعة اللغوية أثناء القصة واستمتاعنا بالسرد الإبداعي للجد في البحث عن الجريدة والمكان والهزل في الجري وراء الفراغات المربعة إلا أننا لاحظنا محاولة خفية لربط حبل العقدة حول عنق البطل حتى أن البعض ربما لا يحس بها حيث أغراه الجري وراء المربعات الفارغة حتى نسي الوطن ، فكان مع صياح النادل حل هذه العقدة المحكمة بسهولة أوصلت الرسالة وذلك حين أذنت لن الكاتبة بالتوقف فجأة لنرى الحل بل نسمعه .
ختام : هناك كلام قد يطول نكتفي منه بما تيسر ولعل الكمال العزيز يأمرنا بتلميحات يسيرة فمثلا ( همزة أحجيات قطعية - والزحمة : الزحام أفضل منها – والمكان الخالي لا يحتاج لياء فهو مكانٍ خالٍ ) وأخيارا لو غادر البطل نهائيا وضاع مع رواد الشارع قطعا لن يسمع النادل لكن الكاتبة تريده أن يسمع وتريدنا أن نعرف أنه سمع بل وتريدنا أن نسمع معه لذا فهو كاد أن يغادر أو كاد أن يضيع ، حيث نزرع الأمل ونضيء طرفا من ستارة الختام ، والحقيقة أننا أمام تجربة ثرية في قصة قصيرة مكثفة المعاني والأحداث وعبرة عن آمال وآلام القراء هنيئا للقراء بمطالعة مثل هذا السرد من مثل هذه الكاتبة ، والسلام 
بقلم الدكتور سعد جبر شاعر وكاتب وناقد - عميد كلية الإعلام بجامعة باشن
قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏منظر داخلي‏‏

هناك تعليق واحد:

  1. شكرا لاهتمامكم ونشركم هذا النقد والتحليل - دكتور سعد جبر

    ردحذف

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة