Translate

الأحد، 25 ديسمبر 2022

الوداع الأخير بقلم الأديب المبدع / حسن أجبوه - المغرب

 

الوداع الأخير
بقلم الأديب المبدع / حسن أجبوه
المغرب
رنين متواصل وعنيف، خط الشاشة استوى مستقيما، منذرا بحلول الكارثة. تسرع الأقدام من كل حدب وصوب، الأصوات تتعالى وتحتدم، لابد من الاسراع بحقنه بالديجوكسين : كم ؟
-250 ميكروغرام، بسرعة والا سنفقده !
يزداد تباطئ النبض، ومعها تحتار الرؤوس، وتتبعثر الأفكار، فيقدم أحدهم بسرعة لحمل طارات جهاز الصدم الكهربائي، صادحا بأعلى صوته :
- هيا ضعيه على 50 ميلي أمبير، بسرعة
- بنظرة مترددة، قد يموت..
- لا وقت لدينا...
يصرخ الشاب في وجوههم الشاحبة :
- « كلير »! فتبتعد الأعين، قبل الأجساد، و بسرعة يضع الطارات على الصدر المشعر، يرتجف أكثر، يسود صمت مخيف، إلا من خفقان القلوب والأجهزة.. فجأة سمع طنين الجهاز، منبئا بالبشارة :
- لقد عاد إلينا..النبض مستقر..
تلتف حوله الإشادات من كل جانب، بينما اكتفى كبيرهم صاحب النظارات المقعرة بابتسامة باهتة.
يحاول فتح عينيه، لكن الأضواء المسلطة عليه، تحول دون ذلك، يتناهى الى سمعه همسات حديث:
- ياليت كل الأبناء مثله، وهبها كليته وغامر بحياته لينجد والدته.
- إنه محظوظ، لقد أنقذه الدكتور سعيد..
أنقذني ! كان عليه أن يدعني أعانق ملك الموت، و تضم روحي حضنها الدافئ.
كشريط سينمائي بالأبيض والأسود، يحاول استعادة ذكرياته؛ طفل وحيد، لا يذكر أنه نطق عبارة " بابا "، منذ أن فتح أعينه على الدنيا، وخبرها، لصقت به تلك الكنية، وارتبطت بكينونته، كأنها خيوط شع عنكبوت، تأبى الإضمحلال حتى توقع بفرائسها، " لقيط "، ماذنبه في نزوة عابرة، بين أمه القاصر ورجل ما ؟
- أنت لست لقيطا، أبوك رحمه الله من عائلة محترمة، وأنت ياولدي وقرة عيني، سيدهم .
كلمات كانت فقط للتخفيف، عما يكتنفه من غضب و غل تجاه كل أقرانه الذين يتنمرون عليه..
- يجب أن نرحل من هذه البلدة يا أماه، وبأسرع مايمكن، لقد.. لم أقصد ايذاءه (صفوان ابن الحاج علي)، جعلني أضحوكة بالصف، في كل مرة يسأل معلمنا أن نأتي بمثال عما ندرس، يدرج كلمة
"لقيط" وفي عينيه الحمراوين، شرارة تخترق قلبي، وتعتصر ما في داخلي، إنه يتعمد إهانتي.. أنا فقط وسمت وجهه بعضة، سيتذكرها.. أرجوك يا أماه لنرحل.
تركنا البلدة سرا، تائهين، مجبرين على استنشاق عبق كرامة، في مدينة نتوه في دهاليزها، ولا تصنف سكانها وتعاقبهم على زلات الماضي..
-الحمد لله، يبدو أنك استفقت، سأنادي الدكتور سعيد، فلولاه لكنت في عداد الموتى، لقد أنقذ حياتك..
أحاول أن ألتفت للصوت، لكن إبرا لعينة متبثة بجانبي، وخزاتها تدميني..
- أرجوك سيدي، مازال جرحك لم يلتئم بعد، وتلزمك أيام من النقاهة.
أستفسرها، وصوتي يرتد من خلال قناع الاوكسجين، لا أدري هل فهمت مقصدي!
- اطمئن، أمك كذلك على أحسن ما يرام، لقد نجحت عملياتكما، ستعيش زمنا كافيا لترى أحفادها. ولن تضطر للمدوامة على غسيل دمها..
اه، كم أشتاق لك يا أمي، لا عيش لي بعدك، أنت عزوتي وملاذي. كل هذه السنين، كافحت لوحدك لإسعادي، تنقلت بين البيوت والحانات لتعليمي.. فما كان جزاءك ؟ دار المسنين! اللعنة على تلك المرأة العاقر، خيرتني بينها وبين أمي ! فاخترتها، لمذا ؟ سامحي عقوقي يا أماه. لقد سحرتني بغنجها الزائف، ولما أيقنت من عجزي أمام سخاء أبيها! تفننت بالتلاعب بي..
- كل ما تعيش فيه من بحبحة، هو من كرم أبي و عطفه عليك ! أنت مجرد زوج لابنته. والعصمة بيدي. أمك العاهر مكانها السجن وليس دار المسنين.
أستجمع قواي الخائرة، أنهض، يستتبعني الصوت محذرا من عاقبة القيام..
- في أي غرفة هي ؟
- سيدي، إنها بخير، إنها بآخر الردهة، وقد أقسمت على زيارتك، لا تتحرك، ستقفد المزيد من الدم !
متلاطما بين الجدران، عيوني تخونني، أتعثر بما يواجهني في طريقي، تطول المسافة وكأنها دهر، تحاول أن تمسك عضدي، فأبتعد عنها، لازال الطريق شاقا ومظلما..يطل علي وجهها السمح من كوة زجاج النافذة، يبدو أنها ستعيش، لقد اختفى اصفرار وجهها، الحمد لله..
- ها أنت قد رأيتها، هل ارتحت؟
أطأطئ رأسي بالإيجاب، ملتمسا طريقا لزر المصعد.
- أحذرك سيدي، ستتحمل بمسؤولية تهورك، لابد أن يؤشر الطبيب على خروجك!
يفتح الباب، أدلفه بصعوبة وكفي ضاغط على جانبي الأيسر..
- سيدي، أمك ستسأل عنك؟!
- ليثها كانت أمي ! وداعا.
تمت
✍️ حسن أجبوه
المغرب


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة