Translate

الجمعة، 3 فبراير 2023

التين و عسله قصة قصيرة للكاتب المبدع / سيف بدوي - مصر


 التين و عسله

العربة الخشبية ذات اليدين القصيرتين صغيرة .. و ظلها محدود .. وهو يتكوم على نفسه بجسده النحيل الجاف في أصغر بقعة ظل .
جسده الذي دبغته الشمس في بلاد الناس يتنقَّل طيلة النهار على الرصيف كلما انتقل ظلُ عربته ، و الأيام التي يشحّ فيها الرزق؛ يمتد فيها ظل العربة - بما عليها من كومة التين الشوكي- فيَفرِد جسدَه مستلقياً على ظهره،و عيناه تتأملان تلك السماء الفسيحة .
عيناه المحدقتان في السماء يلتمع أمامهما ومضٌ متقطع لبقعٍ مضيئة تتخلق من العدم ثم تزوي لتتخلق من جديد ، فيهُب من رقدته و يدس يده في صدره ليخرج من "سيَّالة الصديري المقلم" ملقاطاً؛ ثم يستغرق في انتزاع أشواك التين من أصابعه أو كف يده .. و قبيل المغرب يميل بجنبه على الرصيف في وضع جنيني ليخطف غفوة أو ليريح عينيه من شمس النهار الطويل .
كان قد اعتاد على مرورها صباحاً .. بجسدٍ عفوي يندفع بلا رادع؛ فيشق هواء الصباح ، بيدٍ تحمل كيساً به علبة الفول المدمس و قرطاس الطعمية وبالأخرى تَزُمُّ عباءتها من الجانب فتشِف عن تقوس عَجُزِها الذي ما يلبث أن يرتفع باستدارة لدنةٍ مشدودة .. وتميل بوجهها الصبوح نحوه :
- صباح الخير
ثم تسير مسرعة وتختفي في الشارع الضيق؛ لتعود ثانية .. وتعبر أمامه على الرصيف المقابل و بيدها الأرغفة الساخنة ، دون أن تلتفت نحوه ، غير أن الابتسامة التي تحاول كبحها تفضحها .
لم يدم الحال طويلاً .. فبعد بضعة أيام .. عادت من الفرن .. لم تسر على الرصيف المقابل كعادتها .. لكنها عبرت الشارع متوجهة إليه رأساً .. فقام من على الرصيف ونَفَضَ جلبابه الواسع ثم مدَّ يده متعجلاً رافعاً "ياقته" من ناحية قفاه ليعتدل هندامه
ـ صباح الخير
• صباحِك نادي
ـ بكام الواحدة؟
• ماتغلاش عليكي
ـ لأ .. بكام؟
لم يَرُد .. فقد كان أسرع والتقط مشرطاً صغيراً .. وعبث بيده وسط كومة التين لينتقي أنضجها وأكبرها ثم يقطع طرفيها ويشق قشرتها .. مادَّاً يده المرتعشة بالثمرة المكتنزة نحوها؛ لتنتزعها من داخل قشرتها وتقضمها وهي تتفادى النظر إليه ، لم تكد تنتهي من الثمرة حتى مد يده بثانية وثالثة .. وهي تمانع في كل مرة وهو يُصِر، فتخضع برضا .
كانت تعبث بجنيهات من المعدن في كفها ، وهو لا يرفع عينيه عن شفتيها المبتلتين بعسل التين .. ثم رفعت وجهها نحوه .. لتجده يتأملها، وعيناه تلتمعان بكل معنى ..
- ما تقول بكام!
• طب ودين محمد ما واخد حاجة
- يُوه .. معدتش هاجي
• المرة دي علينا ..
- ما نتحرمش
ثم ابتسمت له وانطلقت كطفلة تتقافز .. وهو واقف يكاد قلبه ينفجر مما اعتمل فيه ، وقد بدا كالأبله وهو يقف مبتسماً يصفِّق بكفيه القاسيتين ، زاعقاً بنبرة مغناة ممدودة منادياً على بضاعته : ( التين و عسله )
كانت الأيام التي تلت ذلك قد حسمت أمر ما بينهما .. إلا أن أي منهما لم يقل كلاماً صريحاً .. ولم يَعِد أيهما الآخر ثمة وعد .. غير أنه منذ يومين .. كانت قد أتت .. وهو قشَّر لها التين .. فأكلت دون أن تبتسم ، وهو رمى القشر في القفص الصغير المعلق بيد العربة شارداً ..
ـ هيمشوني
• مين ؟
ـ اصحاب الشغل
• انتي بتشتغلي ؟!
ـ أه .. في المعرض اللي في آخر الشارع ده
• ليه !
ـ الحُوجَة ربنا ما يِحوِجَك
• لا لمؤاخذه .. ليه هيمشوكوا ؟
ـ افترا ..هرجع بلدنا ..
• وأنا !
ـ أنت أيه ؟!
• مفيش .
بقيا صامتين .. إلا أنه وبصوت مرتعش همس لها بثقة : ( أنا وانتي على الله ) ، وأَفهَمَها أنه أتى من بعيد مع أمه .. يبيع البطاطا في الشتاء و في الصيف يشوى كيزان الذرة أو يقشر التين .. وإن ضاق الحال يَرُصّ "اللُّوف" على العربة و الله رزاق كريم .. وأنَّ ( اللُقٔمة تساع تلاته ) ، فوافَقَت ، ثم جرت كطفلة .. وهو ابتسم كالأبله وصفق ونادي صادحاً : (التيــــن و عسله)
لم يكد يجلس تحت ظل عربته حتى رآها آتية من بعيد تجري .. فقفز نحوها ، وقبل أن يصل إليها كانت تصرخ : ( الحملة .. المَرَافِقٔ .. الحكومة ! )
كانت العربات تأتي من خلفها مسرعة .. و الضابط يشير نحوه ، و المخبرون يَجْرُون ، يطوقونه تطويقاً مدروساً مجرباً ، و هو .. وقد شَقُّوا جلبابه ـ يتَفَلَّتُ من بين إيديهم المفلطحة التي ترتفع ثم تهوي بثقلها على جسده .. فتطيح به في كل اتجاه .
كانت تراه بين أيديهم وهو يتشبث بما تطاله يده ، وعيناه تنظران إليها بفزع وقلة حيلة ، فتدفع جسدها وسط العراك .. وهو يمد يده نحو جسدها ليدفعها بعيدا .
جرت نحو عربة التين .. وارتمت فوقها بجسدها ، والشوك ينغرس في وجهها وبطنها.. وتبكي .. ، والضابط يقف على الرصيف المقابل يشير نحوها .. لتمتد الأيدي المفلطحة نحوها .. تندس تحت جسدها ، تتحسسها ، قبل أن تحملها وتلقي بها على الرصيف ..
كانت أرجلهم التي تدهس التين تحت خطواتها تتحرك مبتعدة بعد أن ألقوا بعربته في الصندوق المعدني لعربة النقل الحكومية .. أما هو فقد ألقى بجلبابه المشقوق على جسدها وقاما يترنحان نحو نهاية الشارع ، ومن فوقهما تندلع شمس حارقة تتوسط السماء الفسيحة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة