Translate

الجمعة، 17 فبراير 2023

أريكـــــــا للكاتبة المبدعة / أسماء عبد الراضي محمد مصر

 أريكـــــــا

للكاتبة المبدعة / أسماء عبد الراضي محمد

مصر
أريكا ... عامّة
أريكا ... عامّة
تتراقص ضحكاتهن المتناغمة، تتهادى صيحاتهن مستقرة في أذني، فيمتزج داخلي اشتياق إلى أيام خلت، وحسرة على أيام قادمة تنتظر ابنتي "سُلوان".
عندما تسمعُ البنات يصحن "أريكا" وهنّ يلعبن "الحجلة' فورا تنتقل عيناها إلى قدمها الضامرة في أغلالها، فتتذكر أنه ليس من حقّها أن تصيح مثلهن بهذه الكلمة، أذهب بها إلى النافذة المطلة على الوسعاية أمام بيتنا القروي الدافئ، تراقب البنات بنهم، يتقاذفن فوق مربعات ستة رسمنها على الأرض بالطباشير، ترمي إحداهن الحجر على المربع الأول، ثم تقفز على قدم واحدة بينما تبقى الأخرى مرفوعة عن الأرض، وتقوم بدفع الحجر بقدمها إلى الأمام في المربعات الأخرى بالترتيب وتستمر في دفع الحجر في كل المربعات حتى إذا انتهت، تبدأ الهتاف(أريكا) وهي تخطو فوق المربعات مغمضة عينيها، فيجبنها البنات (عامّة)!
سرعان ما تطلب مني سلوان العودة حيث كنا، نقرأ القصص، نرسم، ونكتب الحروف والأرقام.
أشعر بغصَّتها في حلقي، تُرى كيف ستكون ردة فعلك يا ابنتي، حين تعلمين أنني من صممت على مجيئك إلى الدنيا بإعاقتك هذه؟ هل ستغفرين لأمكِ وتقدرين حبها لكِ وتمسكها بكِ، أم ستسخطين لأنها أتت بكِ إلى عالم لا يرحم؟
"لا بد من الإجهاض يا سمر، لا تعاندي، الطب قال كلمته!"
نهشني التردد والجزع، أجلّتُ الأمر يوما، يومين، أسبوعا، وشهرا، حتى مضى الوقت، وأصبح في الإجهاض خطر على حياتي.
"ركبتِ دماغك، ونفذتِ رغبتك"
غضب أبوكِ فسافر، عاد يوم ولادتك، لكن قلبه لم يعد، من يومها ألِفَت روحه السفر، أيام غيابه تتخطى أيام إقامته معنا، يعاتبني قلبه مع كل عثرة تعيق سير علاجك، سنوات ست، بعدد مربعات لعبة "الحجلة"، مرّت من عمر ابنتي، اجتزناها معا، لكنها أبدًا لم تكن بسهولة اجتياز مربعات الحجلة، كانت مرة بمذاق الحنظل، حلوة بنكهة ضحكة ابنتي ونقاء سريرتها، سنوات ست تعلمت فيها ما لم أتعلمه طيلة حياتي.
-عماد، غدا موعد الطبيب..!
-الفلوس عندك في الدرج، خذي أختك معك، سأتأخر في المكتب.
"ومتى لم تتأخر؟"
حتى وإن لم يكن لديه عمل، سيتأخر قاصدا، لم يكلّف نفسه حتى اليوم مشقة مشوار الطبيب سوى مرة واحدة، كان فيها مجبرا لأن أحدا لم يكن متفرغا للذهاب معي، مرة واحدة خلال سنوات ست لم تكل فيها قدمي أو تمل طريق الطبيب، مرة واحدة اصطحبني وابنته التي لم يحملها بين يديه مذ ولادتها سوى مرتين، وكلاهما كانتا خفية، الأولى رأيته فيها بعيني، والثانية أخبرتني بها سلوان ..
"يديّ بابا حانيتين جدا يا ماما، كقلوب ملائكة الرحمة في قصصك، فتحتُ عيني اليوم على قبلةٍ منه وهو يحملني"
حنون أبوكِ يا ابنتي وإلا ما كانت أمّكِ لتحبّه وتقرن حياتها بأنفاسه، لكن متى بقيت القلوب على حالها؟!
"هل أقول لها إن قلب أبيها تعلّم القسوة مذ أتت إلى عالمه..!"
حان موعد الطبيب هذه المرة بعد سفر أختي إلى جامعتها، لم يجد عماد بدًّا من مرافقتنا إلى الأقصر، حيث عيادة الطبيب المتابع لحالة سلوان، والذي يأتي من القاهرة مرة واحدة كل شهر.
في موقف السيارات، دقت السادسة والنصف صباحا، كان الزحام لم يشتد بعد، فحمدت الله واستبشرت خيرا، ركبنا سيارة متجهة إلى الأقصر، دقائق واكتمل عدد الركاب، فانطلق السائق يقطع الطريق الترابي وهو يدندن (صباح الخير يا اللي معانا، الكروان غنى وصحّانا) مع صوت الست في الراديو.
على الكرسي المجاور لنا جلست امرأة أربعينية مع ابنتها التي تكبر ابنتي قليلا، أو ربما في مثل سنها، نظرت إلينا المرأة نظرة تضج شفقة، قبل أن تقول وهي تمصص شفتيها:
-الله يعينكم على ما بلاكم..!
امتقع وجه عماد، وأشاح بنظره بعيدا حتى لا ألحظ تغيّره، فقلت للمرأة:
-بل هي سعادتي وسعادة أبيها.
نظر عماد إليّ نظرة أعرفها جيدا، فسكت؛ حتى لا أثير غضبه أكثر، لكن سلوان نظرت إلى الصغيرة من فوق الكرسي المتحرك وقالت:
-أعرف جيدا لماذا تنظرين إليّ هكذا، لأنني مختلفة عنكِ، نعم أنا مختلفة عن الجميع، سعيدة جدا باختلافي، حتى وإن حرمني بعض النعم، لكنني متميزة في أشياء كثيرة، احكِ لها يا ماما عن رسوماتي وقصصي.
أمسكت سلوان بيد أبيها، ثم أمسكت بيدي، وأكملت:
-لكن تعرفين، حب هذين هو أكبر نعمة أستمتع بها.
انهمرت دموعي كما لم تنهمر من قبل، قبَّلت يد ابنتي، بينما راح عماد يحتضن كفها بشوق كمن عاد لتوه من سفر بعيد.
مر اليوم بفضل الله وكرمه، في طريق عودتنا، رأينا البنات يلعبن الحجلة أمام البيت، رغم نثيث المطر المتساقط، نظرت سلوان إليهن بلهفة، وأشارت إليّ فتوقفت عن دفع كرسيها المتحرك، رأى عماد لهفتها ونظراتها فحملها بين يديه، وراح يقفز بها وسط البنات بعد أن طلب منهن أن تشاركهن سلوان اللعب، أخذ عماد يقفز ضاحكا فوق المربعات المرسومة على الأرض، وهو يصيح:
- أريكا
فتجيبه البنات بمرح:
- عامّة..
غمز لسلوان، فبدأت تصيح بصوتها الندي:
- أريكا
فتجيبها البنات:
- عامّة..!
أسماء عبد الراضي محمد
مصر
قد تكون صورة ‏حجاب‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة