الهاربة
قالت لي:
- البس ملابسك بسرعة ، وهيا بنا لننصرف قبل أن يعود...
سألتها ببراءة:
- من؟...من سيعود؟...ومن أين سيعود؟
فردت علي وهي تجمع ملابسها على شكل كومة:
- أبوك...علينا أن نخرج قبل عودته من السوق...
استحوذت علامات الإستفهام على مخي البريء، فسألتها من جديد:
- أمي، تبدو المنطقة المحيطة بعينيك زرقاء، رغم الكحل، وكذلك خدك، من ضربك؟...هل ضربك أبي من جديد؟...لماذا يضربك باستمرار؟
تبكي كطفلة صغيرة...ثم تنصرف إلى غرفة أخرى...
أتبعها، وأنا أمسك بتلابيب قفطانها:
- لماذا ضربك يا أمي؟
تتصنع ابتسامة، ثم ترد:
- لا، لم يضربني أبوك...فقط كنا نمزح فأصابني في عيني...ضَرْبُ الخطإ فقط...
- إذا كان الأمر كذلك، فلماذا إذن تستعدين للهرب مرة أخرى من المنزل؟!
- ستعرف كل شيء حينما تكبر يا ولدي...هيا...هيا لنغادر البيت حالا، سنذهب إلى منزل جدك بمدشر آخر بعيد...
طبعا ليست المرة الأولى التي أرافق فيها أمي إلى بيت جدي الذي يبعد عن بيتنا بعشرات الكيلومترات...فأنا تعودت على ذلك بعد كل خصام يحدث بينهما...أبي رجل مرح جدا مع الناس، لكنه عنيف جدا مع أمي، بل حتى معنا أيضا، حينما يريد مداعبتنا يعضُّنا عوض أن يقبِّلنا...فهل هو يعض أمي أيضا؟
تساءلت مع نفسي وأنا أغلق الباب خلفي...
أمي تحمل فوق رأسها قفة مصنوعة من الدوم، تماما كما تفعل عند ذهابها لحضور عرس أو عقيقة أو حفل ختان...أكيد أنها تحاول إخفاء قضية هروبها من المنزل عن سكان المدشر، بدعوى ذهابها لحفل بمدشر أبيها...هذا ما تأكدت منه وأنا أسمع أجوبتها على أسئلة نسوة المدشر...
كان لدي إحساس بالرجولة رغم صغر سني، صحيح أنني لم أتعد السادسة من عمري بعد، ولكنني اليوم حارس أمي، بل مجرد تواجدي إلى جانبها يعطيها إحساسا بالعفة والطهارة، كما يمنحها الشجاعة لقطع الغابة التي تفصل بين المدشرين. وما أوحشها من غابة!
يبدو أنني أصبحت كبيرا في نظر أمي، نعم سأدافع عنها إن اعترض سبيلها لص أو معتدٍ، سأقطعه بشفرة الحلاقة التي أخفيها بجيبي...انا بطل...يجب أن أثبت لأمي أنني أصبحت رجلا...ولم لا؟! ...فقد كسرت أسنان إبن عمي قبل يومين، حينما حاول سلبي ما سرقتُه من بيض للعمة رقية...أنا بطل خطير...نعم يمكنك الإعتماد علي يا أمي...
هكذا كنت أهذي مع نفسي، وأتحدث إليها وأنا أسير خلف أمي.
فجأة تغيرت الأحاسيس، بل ومباشرة بعد التوغل في الغابة...عم السكون، إلا من صوت نعالنا التي تطأ الأرض، أو تغريدة متقطعة لطير...
بدأ الخوف يسيطر علي، خاصة حينما نصحتني أمي قائلة:
- لا تلتفت إلى الخلف، حتى لا يصفعك جني أو عفريت...
كدت أفعلها في سروالي، لولا أنني قاومت...
تذكرت ما حكاه لنا الفقيه يوما عن تواجد قطاع الطرق بالوادي وسط الغابة...تساءلت مع نفسي: كيف سأتصرف لو أن أحدهم حاول اعتراض سبيل أمي، او اغتصابها؟
رسمت خطة: سأقترب منه وأنا أبكي...سأمثل عليه دور من يستعطفه، ثم أجرحه بموس الحلاقة...نعم، حينها فقط سيهرب...ثم سنهرب نحن كذلك....
طريق الغابة طويل جدا، وكأنه لا نهاية له...الخوف يكبر بداخلي...
بحركة خاطفة، مررت أمي بأصبعها على أنفها طالبة مني التزام الصمت، يبدو أنه هناك أصوات لرجال يتحدثون...أنا لم أشاهد أحدا بعد...
فجأة يظهر رجل يحمل على كتفه لفافة بها قنب هندي...ثم يظهر خلفه آخر...بل سرب من المهربين...فقدت السيطرة على جهازي العصبي، فبللت سروالي...
بذكاء ناديت بأعلى صوتي:
- أبي...أبي...الحق بنا بعد قضاء حاجتك...
كان الرجال يحيوننا، وهم يسيرون بشكل متباعد، سألني أحدهم:
- ألم تصادفوا يا ولدي رجال الدرك في الطريق؟
بسرعة أجبته:
- لا يا عم، لم نصادفهم...بل حتى الرجل الذي ستصادفونه في الطريق فهو أبي...لا تخافوا منه...
- خدعتهم بذكائي، ألم أقل لك يا أمي أني رجل ؟!
ابتسمت أمي، وقبلتني...أصبحنا أكثر شجاعة...بل أنها حكت لي عن شجاعة أبي وجدي...
أخيرا ظهرت منازل مغطاة بالقصدير، سألت أمي عنها، فقالت لي:
- ذاك مدشر جدك...لقد اقتربنا...
تساءلت مع نفسي كيف سيكون رد فعل أبي حينما يعود من السوق ولا يجد أمي بالبيت؟ من سيقلي لإخواني السردين؟ من سيحلب البقرة؟...
حينما وصلنا إلى مدشر جدي كانت مفاجأة تنتظرنا هنالك: بهيمتنا مربوطة بشجرة قرب البيت!
أنا لا أصدق عيناي!
كانت الأبواب مفتوحة...دخلناها بعد دق خفيف، لنجد أبي يجلس صحبة خالي على حصيرة وهما يشربان الشاي...
قبلت أمي يد أبي، ثم يد خالي، وكذلك فعلت أنا...
بعد لحظات، اكتشفت أن أبي مر مباشرة من السوق إلى دار جدي، وكأنه كان يعرف نوايا أمي...نعم لقد سبقت شكواه شكواها، فانتصروا له، لنعود في المساء جميعا إلى بيتنا...أبي يركب على البغل، وأنا ملتصق بظهره ، أما أمي فقد كانت تتبعنا ماسكة بذيل البغل...
أحمد المودن - المغرب