Translate

الجمعة، 16 ديسمبر 2022

الكاتب والناقد د. سعد جبر وقراءته في نص أمّي تكذب .. للكاتبة والأديبة المبدعة / صديقة علي - سورية

 

هنا المحبرة التي تخط أثر المعركة، وترسم دخان الحرب ولكن ليس في ميدان الرصاص؛ بل في جدران المجتمع:

قراءة الكاتب والناقد د. سعد جبر  في نص أمّي تكذب .. للكاتبة والأديبة المبدعة / صديقة علي

أمعقول هذا الإبداع ! في عصر الثورات والفورات، والتقليعات والمشكلات المعضلات، والصرعات والصراعات، والموضات والصرخات، واللاهثون وراء الهوى واللاهثات.
لغة عربية ولود ودود، وقصة محبوكة معدودة، ومعان سامقة مرصودة، محسوسة ملموسة موجودة من واقع الواقع، لكنها كالخيال تصرخ في أذن الدنيا وسمع العالم: هنا بشر يا بشر، هنا جوع ودموع، هنا المجدرة وهنا المحبرة التي تخط أثر المعركة، وترسم دخان الحرب ولكن ليس في ميدان الرصاص؛ بل في جدران المجتمع وعظام الجيلين الملتقيان قدرا على حافة الهاوية، التي حفرتها عقول فارغةـ وقلوب مارقة، وانتهزتها ثعالب الدنيا وذئابها؛ فنهشت حاضرنا ومستقبلنا.
بلاد تعيش فوق بحور الزيت الأسود، وفوقها أجمل زيت زيتوني الصفاء، ثم تجوع!؟
يا لروعة القصة! التي لن أقف مكتوف اليدين أمامها، سأكتب عنها وأكتب حتى أشبع من حروف عطائها، وحتى يعرفها الجميع.
ليتني عمر الشريف لكنت ترجمتها لأعظم فيلم واقعي خيالي فانتازي درامي كلاسيكي؛ مضحك باكي باسم هاطل الدمع شجي الموسيقى حزين المطلعين، بدايته مسك وختامه مسك، وأوسطه صراع يكاد من يفهمه أن يجن ، ثم أما قبل فالحوار في قصص الكاتبة ( صديقة علي ) يحتاج وحده لمجلد بعنوان "تطور الحوار ودلالاته في قصص صديقة علي " ولعله غدا يكون أطروحة ماجستير لو عشنا ورأينا ، أما النقد الأدبي فهو اليوم في مرتبة ثانية بعد النقد الروحي، والنقد الجمالي والنقد النفسي، والنقد الاجتماعي.
إن الحروف لتعجز عن توفية النص الرائق قدره والكمال عزيز، فلي وقفة ثانية - إن سمحت لي الكاتبة - لأصفف بعض النقد لتفصيلات فصوص هذا العقد الفريد - دمت لمحبيك، وصح لسانك وسال قلمك بالخير والعطاء دوما، وتقبلي فائق التحية والتقدير –
د. سعد جبر ، عميد كلية الإعلام بجامعة باشن العالمية بأمريكا
****************************
أمّي تكذب
أشدّ ما يؤلمني، تلك النظرة المحمّلة بالأسى والخيبة في عيني والدي، وإطراقة رأسه الذليلة التي يعود فيها لليوم الثالث على التوالي، حاملاً (غالونات) بلاستيكية فارغة كان قد خرج فيها منذ الصباح، وكلّه أمل أنّ اليوم سيكون مختلفا عمّا سبقه، صوت أمّي المواسي له مدية تنغرز في قلبي،
- لا حاجة لنا للمازوت فهذا الشتاء دافئ وقليل من البطانيات يكفينا، في حين كنت أراقبها عند انتهائها من اعداد الطعام وتنظيف الأواني، وهي توحوح من شدة البرد تقترب من المدفأة الباردة، ثم تعدل من وضع بطانيتي تدثرني جيدا وتهمس: أتشعر بالبرد ياقلبي؟ ، تسخن الماء وتضعه في قارورة محكمة، تلفها بقماش قطني؛ لتضعه تحت قدميّ وهي تؤكد أنها لاتشعر بالبرد؛ ولا يهمها المازوت الشحيح ، وما أن يرن هاتفها حتى تدعو وهي تهرول اليه:
-يارب بشراك بأن يكون هو ويخبرني أنه قد حصل على المازوت، وكانت تنهي المكاملة بهدوء وتهمس: صحتك بالدنيا لا تنتظر فالجو بارد ...تعال عشر ساعات بالعراء ستنهي صحتك... يلعن أبو المازوت وحاجته.
أتساءل في سري من أين لأمي كل هذه القدرة على الكذب، إذ كانت تصرّ بأن المجدرة أطيب وألذّ بزيت دوار الشمس، وما زيت الزيتون إلا رفاهية و(فزلكة )لا طعم لها، كانت تحمل المقلاة الحامية من المطبخ، وتشهرها بوجهي لأشمها
- بالله عليك شم ما أطيب رائحته ..قال زيت زيتون قال .
كنت أكذب أيضا وأبدي كل علامات الرضى، وأؤكد كلامها مما يشعرها بالانتصار، وشيئا فشيئا صارت أمي تصرّ أن البصل لا ضرورة له فغلاء ثمنه، لا يستحق أن نضيّع طعم المجدرة فيه، وكان أبي يخالفها ويصلان لحد الشجار وهو يصيح بعنف:
- المجدرة بلا بصل وبلا زيت زيتون تشبه حياتنا بلا طعم ولا قيمة،
- استغناء أمي المتصاعد سيصل بنا إلى أن نسلق الحصى ان توقفت المعونات، وكانت تضحك لتندري عليها، و كل ما يهمها ألا أضبطها متلبسة بتلك الدمعة المكابرة التي تمسحها عن خدها.
اليوم وجهها مشرق، فالأخبار أتت بأن الازدحام قد خف، وطوابير الأمل قد قصر طولها، ووالدي سيعود غانما، تغطي ساقيّ بحرام صوفي، وآخر لكتفي وأنا جالس على أريكتي المعتادة، وتهمس لي:
- لا عليك حدسي يقول أننا اليوم سنقبر البرد.
سنقبر البرد ..صداها أضرم نارا حارقة لقلبي، ما قالته أحالني لتلك اللهفة التي كانت تستقبلني فيها، تسألني كيف كان امتحانك؟ ماان تصبح مهندسا حتى تحل كل مشاكلنا وسنقبر الفقر.
جاء اتصال أبي موافقا لحدسها، ولشدة فرحتها كادت أن تزغرد وتحولت خطواتها التي كانت متثاقلة قبل قليل إلى ما يشبه الرقص بحيوية ونشاط ...ورمقتني بعينيها الجميلتين، وهي تغمز لي ألم أقل لك حدسي لا يخطئ .. كانت تروح وتجيء إلى باب الدار، تفتحه، تلقي نظرة على الشارع، ثم تعود:
- يجب أن انتبه كي أساعده بتنزيل الأوعية فهو يا عيني أصبح كبيرا بالسن و(الديسك) قد هلكه.
ثم تبتسم اذ تكتشف انها كانت تفكر بصوت عال،
-إياك أن تخبره .. ترمق المدفأة بفرحة، تنحني لتقبل رأسي وتقول: ألم أقل لك سنقبر البرد.
وأنا أتابع فرحتها اللامحدودة، كانت الدموع تسري صقيعية في أعماقي.
اختلط صراخ أبي مع قرقعة الأوعية الفارغة التي كانت تركلها بقدمها
يلعن أبو المازوت ..كفانا أولوياتك
-يا امرأة أولويات أقول لك أولويات. ثم يتجه بنظره الي طالبا نجدتي باخماد ثورتها النادرة الحدوث:
- بعت المازوت بسعر مضاعف واشتريت زيت زيتون، بالله يا بني قل لأمك أليس هذا أفضل؟ فالدنيا فيها أولويات
تقطع عليّ تحضير المرافعة المؤازرة لأبي بصوتها العالي الممزوج بالخذلان:
- لا تقل لي أولويات ..وأي أولوية أهم من هذا المشلول ..مسكين سيموت لشدة البرد
صمت مطبق، حلّ لدقائق، تجّمد أبي في مكانه، وغمرني بكل ما أوتي به من شفقة،شهقت فاغرة فاها، وكأنها ارتكبت إثما لا يغتفر، ثم أمطرتني بوابل من دموعها وقبلاتها.
مشلول؟ الغريب أنني ولعامين من اختراق تلك الطلقة الطائشة لظهري، لم أسمع هذه الكلمة منها أبدا.
حاولت جاهدا استجماع كل عزيمتي بضحكة مجلجلة لتكسر الحرج، والشفقة المخيمة على الفضاء كله:
-لا عليك يا حنونة. ها أنت بدأت تصدقين القول.
كطفلة غفر ذنبها، ارتجفت شفتاها بابتسامة غير مصدّقة.
وراحت تتمتم، وهي تربت على وعاء الزيت بحنو:
- وقع الفأس بالرأس ماذا نفعل! يلعن أبو المازوت ..واتجهت صوب أبي الذي كان مايزال متسمرا في مكانه حادجا وجهها بنظرة لائمة ، وبحسم أمرته :
حقيقة، المجدرة أطيب بالبصل المقلي بزيت الزيتون ...إذهب واحضر لنا البصل. ضحكة أبي الخجولة، عدلت مذاق الألم بداخلي إذ قال لي:
أنت محق ... ها هي بدأت تصدق.
تمت
*المجدرة: طبخة سورية برغل وعدس وبصل محمر بزيت الزيتون
صديقة علي

لغتي هى لغة القرآن تأليف / متولي بصل دمياط - مصر

 


لغتي هى لغة القرآن

تأليف / متولي بصل

دمياط - مصر

يا من تسألني عن لغتي

اقرأ حرفا أو حرفين

فحروف اللغة العربية

نور للقلب وللعين

اقرأ واكتب شيئا منها

واعلم أن اللغة كيان!

ألف باء تاء ثاء

جسد من لحم ودماء

ليست أشكالا جوفاء

أو بعض حروف صماء

اللغة العربية فاعلم

قبس من نور الرحمن

 لغتي هى لغة القرآن

معجزة نبينا العدنان

كلمات وحروف تُتلى

في كل زمان ومكان

اللغة العربية نور

ذكر وشفاء وبيان

لغتي هى أصلي وتكويني

وعِماد لحياتي وديني

أقرؤها شعرا أو نثرا

فتزكي النفس وتُحييني !

ما أجمل لغتي ولساني !

أدب  وكمال وجمال

رددها إن كنت تعاني

وستصبح في أفضل حال

حين أردد جملا منها

أبرأ من كل الأحزان !

لغتي مثل البحر الصافي

فيه اللؤلؤ والمرجان

وحروف اللغة العربية

لا ينكرها أي لسان

تتضوع مسكا عربيا

كزهور وورد البستان !

كل لغات العالم تفنى

أو تحجبها أي غيوم

إلا لغتي ما أجملها

يحفظها الحيُّ القيوم

خالدة كخلود الدهر

لا يأتي عليها النسيان

حمدا لله على نعمه

وعطاياه وهداياه

كم من نعم لا نحصيها

قد أسبغها علينا الله !

أذن تسمع عين تبصر

ولسان يذكر مولاه !

 

 

 

 

 

 


الخميس، 15 ديسمبر 2022

هبة ريح بقلم الكاتبة المبدعة / سمية جمعة - سورية



 هبة ريح

على نحو ما كان ثمة إحساس أنّ هناك جريمة غير معلنة، إذ كيف لآخر أن يهتبل حاجتنا إلى مستتب تلوذ به الروح، حين تلّص منا اللب والمشاعر؟
ترى هل تنجح الأوردة في تحالفها مع القلب والوتين، في فض الاشتباك، وفي تفكيك التماهي بالآخر،ليعود للنبض انتظامه و للشرايين هسيس الدماء، وللقلب أمارات السيادة على الجسد المستلب؟!
ها هي العينان تجوسان المكان في وله، فيما يعلو همسٌ مبهم، ويخفت متساوقًا مع ارتفاع الصدر المحتدم، وانخفاضه، أغنية مشبوبة تصدح لتعود بالمخيلة ثانية إلى حضن الزمن الجميل، عبر الجدران كان صداها يتردد، يغطي على وجيب القلب، فيما كانت أصابعها الدقيقة تمزق آخر ورقة في دفتر الأمس، و أصفر شاحب يغمرها بشروده الأعجف، بينما تتوشح النهايات بأحمر قان، فقط إذ ذاك أخذت حروفٌ تترى أمام عينيها، حروف كادت من فرط صغرها أن تمحى!
الموعد يدنو حثيثا إذن،وها هي ارتعاشة النبض ولازمة التردد تتابع، وخاتمة فصول الدهشة..إنها على موعد مع الحياة.
الكون بامتداده الشاسع منهمك في تفاصيل تلك الشرارة، ثم إن السماء ذاتها، السماء الكلية القدرة وصانعة أقدار البشر قد تعلن تمردها وتمطر!
ولكن كيف أذهلها الزمن عن نفسها؟ و أسلمها لسطوة التخمين، فأمست كل لحظة لحساب الموعد مجازفة، وكل خطوة باتجاهه فخّا، وسجنتها الأسئلة في قفص الحيرة غب أن تقهقرت سحب الحب، فراحت تقدم قدمًا و تؤخر أخرى، لوهلة نأى خوفها أو أشهر إخفاقه على رؤوس الأشهاد، حتى أنها اختلست إليه أكثر من نظرة، بيد أن الزمن في سياقه المنكسر ظلّ محتكما للتشقق!
ظلّت الأحاسيس والأفكار المحتدمة في تناقضها تتداخل.
كانت ذاكرة الأمس تنزف ارتطامها، تناور،وترجئ، ليتسطر السؤال- من ثم - جليا:
ترى هل يحق لها أن توثق هذه اللحظة المسكونة بعمق اللهفة و تضارب الآراء حول مصداقيتها؟!
وما بين إقدام و إحجام تسارعت خطواتها للوصول، لكنها سرعان ما تسمرّت في مكانها، يعتسفها شد وجذب، ومن الخلف كان ثمة حبل سري يشدها إليه، ليمنعها من الوصول إلا إنها وصلت، فابتدرها بالكلام:
تأخرت عن زمنك بزمن، أنا أحصي حقبًا انتظرتك فيها، لقد ضيّعت الكثير من الكلمات التي كنت قد رتبتها في حمّى انتطارك!
تجاهلت يده الممدودة، للمصافحة لا تدري أم للعناق، كل شيء كان قابلًا للتأويل، للاستعارة، او للمجاز!
إلا عينيه اللتين كانتا شديدتي الوضوح في تعبيراتهما.. هرعت إلى سجف اللغة لتغيثها، لكن الأخيرة تكشفّت عن عجز مريب، لا مظلة تقيها ذلك الغبار المتساقط من عينيه، ويحكم قبضته عليها!
سمية جمعة - سورية

قص قصير جدا "رأس بعيون خلفية" بقلم الكاتب والناقد المبدع / عبد الحميد سحبان - المغرب


 قص قصير جدا

"رأس بعيون خلفية"
ضربه بسكين حادة من الخلف فتكسر وجهه تألما لغدر من أسنده ظهره الأعزل الذي شق له عينا تنتحب من الجهة التي لا يمكن له رؤيتها. أوصى قبل فوات الأوان، برش دمه المقطر عند مدخل كل الدروب المؤدية إلى تمثال النصر المنتصب عند سفح جبل الخلاص، فغربان المدينة المتربصة من على سورها العظيم تمتص كل السوائل الحمراء بتلذذ ومهارة، ثم طفق يبدد دموعه بدون حساب حتى لا تشرب نخبا فوق مدفنه.

كابوس... قصة قصيرة بقلم الكاتبة المبدعة / ليلى المرّاني، من العراق


 كابوس... قصة قصيرة

ليلى المرّاني، من العراق

شعور طافح بالفرح والخيلاء حدّ الانتفاخ يغمرني حين تردّد أمي متباهيةً أمام جاراتنا، رغم خوفها من عينٍ حاسدة قد تصيبني!
" أوّل ما رأى النور، فتح عينيه بوجه القابلة، بسملتْ مرّتين، ثمّ
(ما شاء الله)... (ما شاء الله)، ما أجمله! وحين وضعته على صدري ابتسم لها. "
فتردّد النسوة بانفعال: (ما شاء الله... تبارك الرحمن).
لازمني هذا الشعور، وتسربلتُ به حتى ترسّخ في ذهني أن عينَيّ الخضراوين الواسعتين هما سرّ إلهي خصّني الله به، أصير بالونًا منتفخًا حين تزور جاراتنا أمّي ما أن تشعر إحداهن بأعراض الحمل، كي تنظر في وجهي؛ علّ وعسى؛ فأتعمّد أن أحْوِل عيني، كما علّمتني أمّي كي أتّقي الحسد، أو تخبّئني خلف ظهرها.
حين عودتي من المدرسة في ذلك اليوم القائض، هرولت خائفًا وأنا أرى إثنين يتبعانني، كنتُ قد تخاصمت مع أحدهما ومزّقت قميصه، أطبقا عليّ في زقاق ضيّق، دفعاني إلى الحائط، لم أستطع المقاومة، صرخت مستنجدًا، أخرج أحدهما قلمًا من جيبه وصوّبه بكلّ قوّته نحو عيني اليمنى. دارت بي الأرض، غمرني سائل ساخن أخضر، صحت بكلّ ما أملك من قوّة: "عيني..عيني" وأنا أراها تتدحرج أمامي، وغبتُ عن الوعي.
صوت أمّي يصل عنان السماء، "منير... منير... عِمت عيني عليك يمّه...عِمَت عيني عليك يمّه"، وضعتُ كفّي على عيني المفقوءة، بكيت، خرج صوتي ضعيفًا، مرتطمًا بجدار الغرفة، وارتدّ عليّ: "عيني... أمّي أريد عيني".
قفزتْ من مكانها، احتضنتني باكية، كان أبي واقفًا عند رأسي يمسح
دموعًا تساقطت على شاربيه ويُبسمل: "الحمد لله يا ولدي... الحمد لله حبيبي، عينك سليمة لا تخف. غادرته الحمّى اللعينة، كان يهذي طوال الليل والعرق يتصبّب منه"؛
لكنّ عرقًا آخر برائحة أخرى، نتنة كنت والفراش غارقين فيه.

الإناء المثقوب بقلم الكاتب المبدع / محمد خير الله - مصر


 الإناء المثقوب
قصة قصيرة

يجلس مسندا ظهره على سريره الموروث من جده صاحب السمو والأراضي الممتدة في بلدتهم المسماة بلقب عائلته، ناظراً إلى عقارب الساعة التي طالما لسعتهُ فقتلته مراتٍ عديدة، يخالجه شعور الحزن، أنفاسه تتلاحق في صورة زفرات تشق سكون الليل المطبق أجفانه على ذلك المشهد الذي لايبارح وجدانه، عندما عُقِدَ قِرانهُ على تلك الفتاة الريفية ذات الجسم البضِ والتي وافقت بالإرتباط به مقابل حِفْنة من مالٍ دسها في جلباب أبيهاالمهلهل المزارع الفقير أبٌ لدى الكثير من الفتيات حتى صارت زوجته إلاَّ أنَّ فارقَ السنِ كان مزمارَ العُرسِ الذي جلبَّ ثعابينَ الجحورِ من مضاجعها السحيقة وجلبها إلى غرفة نومه حيثُ فشلت غُرةُ شعره الأبيض المتدلية في اِشباع شبق عروسه، ينتظرُ طويلاً ، يترقَّبُ هلالاً تلو الآخر؛ فيخيبُ أملهُ؛ عندما يرى
اِنسلاخ جدار بطانة الرحم محدثاً قطرات دم تخالطها دموعه الآخذة في البحث حثيثا عن وريثهِ المُنتظر
ثمَّ يَذهبُ بعيداً حيث مقبرة عائلته
ليروي نبتة الصبّار المعمرة ويقصُ مآل حاله إلى تلك الروح الساكنة بين هذه الصخور الصلبة
يرمقهُ حارس المقبرة، يقترب منه، وبفراستهِ المعهودة ينصحهُ أن يقدم النذور لصاحب المقام، هذا الشيخ الذي يهيم في فضاءات الليل ويعود مع قدوم الفجر محملاً بالنسائم والتبريكات لراغبي الذكور والبنات، قائلاً أنَّ له أجرٌ مع قدوم البُشرى، يبتسمُ الزوجُ العجوزُ سليلُ العائلةالبهوية، الأماني تلوحُ له في عينيه كعناقيد الياسمين، مسرعاً أحضر الكبش الأملح وذبحهُ تحت تلك القبة الخضراء غامسا يديه بدمه، ثم ركض إلى حسنائه ليصبغَ خديها بالحمرة، لكنّه لم يجدها، سآل عنها هؤلاء الفتيات اللواتي يلعبنَّ بالقرب من البيت، فأشارت إحداهن إلى الطريق الطويل الموصل إلى خارج القرية، قائلة أنها رأتها برفقة الشاب الذي طالما كان يداعبُ لها خصلاتِ شعرها في صباها، لاحقهما سريعاً في الطريق ذي الأشجار العالية وغيرالمُعبَّد، لكن الركض خلفهما أنهكه، فتهالك على الأرض بيدين جفتا من آثار دم المذبوح
تلفَّتَ بحسرة، لم يجد إلاَّ ماتبقى من زمنٍ قليلٍ وساقين منخورتي العظم يَتْكئُ عليهما، واِتجه إلى ذلك القبو الكائن بجوار المقام المُهدَّم؛ ليدفنَّ كل آماله المُنقضية هناك.

قراءة نقدية لرائعة الأستاذة فوز حمزة ( لعبة في وطن ) بقلم الدكتور سعد جبر شاعر وكاتب وناقد - عميد كلية الإعلام بجامعة باشن

 النص

 لعبة في الوطن


الجو شديد الحرارة والشمس عمودية كعادتها في مثل هذا الفصل حتى إنه شعر بقطرات العرق تنساب من كل مكان في جسده، كل ذلك لم يمنعه من البحث عن مجلة الوطن في عددها الأخير الصادر يوم أمس وكان الجواب واحدًا لدى أصحاب المكتبات في شارع المتنبي: لقد نفدت أعداد المجلة حال وصولها.
ما العمل الآن؟ تساءل حائرًا.
استمر بالسير داخل الشارع رغم الزحمة مواصلًا البحث عند باعة الكتب والصحف ممن يفترشون الرصيف. أخيرًا عثر على مجلته المفضلة.
توجه بالسير نحو يمين نهاية الشارع حيث المقهى الذي يعج برواده من المثقفين والأدباء الذين ردوا عليه التحية من بعيد قبل أن يتمكن من إيجاد مكان خالي في أقصى المقهى قريبًا من الموقد الممتلئ بقوارير الشاي ولوازمه.
ارتشف قليلًا من شاي الحامض بدون سكر بعد أن وضعه أمامه نادل المقهى الذي راح ينادي بأعلى صوته ملبيًا طلبات الزبائن .
خشخشة أوراق المجلة وهو يقلبها بين يديه ضاعت وسط موسيقى قادمة من مكتبة تحتل أحد أركان المقهى تبث أغنية على طرف جناحك يا حمام لنجاة الصغيرة بصوت مغنية أخرى لا يعرف اسمها.
تصفح مواضيع المجلة التي لم تعد تثير شهيته للقراءة ما عدا الصفحات الأخيرة التي كانت تتضمن نكت من قراء المجلة واحجيات رياضية وعمود لأحدهم يسرد فيه موقفًا طريفًا تعرض له.
سال لعابه وهو يرى المربعات الفارغة في فقرة الكلمات المتقاطعة. أخرج من جيبه قلم الحبر الجاف ليمارس هوايته التي تعلمها منذ نعومة أظفاره.
أصبح مدمنًا في ممارسة اللعبة حد هذه اللحظة. يشعر وهو ينظر للمربعات الفارغة كأنها تستنجد بذكائه ليملأها فتظهر بعدها الكلمة المطلوبة. في هذا العدد كان اسم دولة توجد فيها مناجم الفحم هو اللغز.
وضع اسم فريق كرة قدم رياضي إنجليزي عاموديًا، هذه الحروف ستسهل عليه المهمة التالية في معرفة اسم الدولة التي تشتهر بزراعة المانجو في المربعات الأفقية.
ارتشف قليلًا من الشاي بعدها كتب اسم ملاكم عالمي مسلم معتزل، أخذ ينقل نظره بين السماء والمجلة محاولا تذكر اسم مطربة سورية يبدأ اسمها بحرف الميم وهو الاسم الذي ظهر له في العمود التالي فكتب بسرعة اسم رئيس أميركي من أصول أفريقية عاموديًا بعد أن ظهر له الحرف المشترك. لم يكن صعبًا عليه إيجاد مرادف كلمة الحب أما المربعات التالية تطلبت منه البحث عن عكس كلمة ظلام والمربعات الأخيرة لم تسرق من وقته سوى ثوان عديدة ليعرف اسم الوباء العالمي المنتشر حاليًا.
نسي كل ما يحيط به منشغلا بتلك المربعات التي تقاطعت بذات الحروف مع مربعات أخرى،ليست بالمهمة المستحيلة. كانت فقط بحاجة لبارع مثله قضى حياته كلها في تعلم أسرار اللعبة ليتوصل إلى الحل.
شعر بالزهو والفخر وهو يرى كلمة الصين التي ظهرت له من تلقاء نفسها بفضل ذكائه وثقافته.
كان قد غادر المقهى وضاع بين رواد الشارع حين ناداه النادل قائلًا:
لقد نسيت الوطن!

القراءة النقدية 
العنوان ( لم تصدمنا صراحة التعبير المباشر المختصر ولم تصرفنا عن مطالعة المحتوى رغم صراحتها ووضوحها فهذا إعجاز أولي ، لكننا لا ننكر لسعة حروف التضاد حين تقرن الكاتبة لفظة اللعبة مع بساطتها وما تحمل من معاني التفاهة مقارنة مع لفظة الوطن وهنا ندق مبكرا ناقوس الانتباه لنستمع جيدا لجرس التضاد بين الجد والهزل وبين السمو واللاشيء)
اللغة ( لغة بسيطة مليئة بالمفردات العادية الموحية بشيوع الكارثة التي تحكي لنا عنها ومع بساطتها المقصودة للوصول لقلب وعقل القراء إلا أنها لم تخل من جماليات لفظية كمثل (تنساب - يعج - بقوارير - ملبيًا - خشخشة - شهيته – أحجيات - مرادف - بالزهو - تلقاء )
الوصف ( حين تعمد الكاتبة للوصف فإنها تصف بدقة وإحساس تصف الاشياء من داخلها لا من خارجها تصف الزمان والمكان والاشياء والأصوات فحرارة الشمس جعلت قطرات العرق تنساب كأنها تراها وكتب الرصيف وامتلاء المقهى بالمثقفين والأجمل هو الوصف المساعي للأصوات وهنا يجب علينا أن نقف احتراما لهذا الجمع بين مفردات المكان الذي ضم باعة ومثقفين وشوارع وموسيقى ومفردات شعبية ثقافية ملأت الأجواء بالحركة والنشاط واجمل من الأجمل هو ترك الوصف كما ترك البطل الأشياء المهمة لينشغل بالمربعات الفارغة فقد تركت الكاتبة الوصف بعد ذلك لتنزل معه لساحة المعركة التي حمي وطيسها وثار غبارها وانكشف عن لا شيء تركت التفاصيل لتغرق مع البطل والقراء في مربعات سحرية غطت بها جوانب العالم شرقا غربا اقتصادا وسياسة ورياضة واجتماعا لتعود لتقرع أسماع الدنيا بمسك الختام وحبكة النهاية )
السرد ( تسلسل انسيابي وحركة طبيعية معتادة تتحرك فيها الأحداث بحركة البطل فتسرع مع خطواته وتتوقف مع صعوبات البحث عن الوطن واهتمامه بالوطن يجعل الحركة وجدانية أكثر منها على الرصيف وبين البحث عن الوطن والبحث عن مقعد في المقهى واستقرار في أي مكان وسلام وتحية مع المثقفين وبين شرب الشاي والخشخشة والتفكير والانتشاء والنهوض والنسيان تعرفنا على امتلاك الكاتبة لقيادة مراكب السرد بهدوء متحرك وحراك يتطلع للاستقرار وينتقل بكل سلاسة بين مشاهد المسرح الكبير الذي رسمته أحداث القصة ببراعة )
الحوار ( خلت القصة من الحوارات الطويلة فمع الباعة نفدت ومع نفسه جملة متأففة ومع عقله حوارات الإجابات لملء المربعات الفارغة ومع البائع حين لم نسمع الجواب ومع المثقفين حين ردوا السلام – وهذا الاقتضاب في الحوار يوحي بأن المجتمع في نظر الكاتبة يفتقر لحوار جاد شعبي يملأ المربعات الفارغة والفجوات التي تتسع كل يوم بين جميع أفراد المجتمع في كل بلادنا مع شديد الاسف )
الشخوص ( البطل مسيطر موصوف معروف والباعة كالعادة والنادل بان من بصوته ونجاة الصغيرة ومقلدتها ربما هي (المطربة هيفاء فرجاني ) والمثقفين رسمت صورهم بخطوط مبهمة عامة في الغالب وفي المربعات الفارغة شخوص أخرى ذات دلالة رائعة على انصرافنا عن شخوص مجتمعنا إلى الاهتمام بشخوص عالمية ( المغنية من سوريا وبطل الملاكمة عالمي والرئيس أمريكي ووباء كورونا عالمي والصين تظهر وحدها بدون حاجة لأحد أن يظهرها ، حتى الحب والنور أصبحا ضمن المربعات الفارغة وليس صلب الحياة ونقاش المثقفين على الملأ وفي هذا دلالة وتلميح أقوى من كل تصريح )
الحبكة وحل العقدة : وإني لأرى الحبكة واضحة من البداية من اسم الجريدة حتى صياح النادل حيث صناعة الكاتبة وغزلها للحبكة مع أنه يبدو تلقائيا إلا أنها حبكة مدبرة بعناية حيث بدأت والنهاية بين عيني قلمها ، ومع طول الصناعة اللغوية أثناء القصة واستمتاعنا بالسرد الإبداعي للجد في البحث عن الجريدة والمكان والهزل في الجري وراء الفراغات المربعة إلا أننا لاحظنا محاولة خفية لربط حبل العقدة حول عنق البطل حتى أن البعض ربما لا يحس بها حيث أغراه الجري وراء المربعات الفارغة حتى نسي الوطن ، فكان مع صياح النادل حل هذه العقدة المحكمة بسهولة أوصلت الرسالة وذلك حين أذنت لن الكاتبة بالتوقف فجأة لنرى الحل بل نسمعه .
ختام : هناك كلام قد يطول نكتفي منه بما تيسر ولعل الكمال العزيز يأمرنا بتلميحات يسيرة فمثلا ( همزة أحجيات قطعية - والزحمة : الزحام أفضل منها – والمكان الخالي لا يحتاج لياء فهو مكانٍ خالٍ ) وأخيارا لو غادر البطل نهائيا وضاع مع رواد الشارع قطعا لن يسمع النادل لكن الكاتبة تريده أن يسمع وتريدنا أن نعرف أنه سمع بل وتريدنا أن نسمع معه لذا فهو كاد أن يغادر أو كاد أن يضيع ، حيث نزرع الأمل ونضيء طرفا من ستارة الختام ، والحقيقة أننا أمام تجربة ثرية في قصة قصيرة مكثفة المعاني والأحداث وعبرة عن آمال وآلام القراء هنيئا للقراء بمطالعة مثل هذا السرد من مثل هذه الكاتبة ، والسلام 
بقلم الدكتور سعد جبر شاعر وكاتب وناقد - عميد كلية الإعلام بجامعة باشن
قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏منظر داخلي‏‏

مشاركات الأعضاء

قدر العرب للشاعر متولي بصل

    قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ  مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ وكمْ منْ بلاءٍ ح...

المشاركات الشائعة