Translate

الثلاثاء، 11 يناير 2022

امتداد بقلم : محمد البوركي - المغرب



 امتداد

ألم به الداء الخبيث ، أقعده الفراش ، يئس الأطباء من شفائه ، ها هو ينتظر حلول الأجل بين الفينة و الأخرى . زوجته ترابط بجواره ، تواسيه و تضمد روحه المكلومة ، لا تطيق فراقه و لو للحظة . في تلك الليلة الممطرة استبد به الألم ، بات يتلوى و يئن ، و ما لبث أن راح في غيبوبة عميقة .
كانت تتأمل وجهه الضامر الشاحب ، عيناه غائرتان منطفئتان ، جبهته ناتئة ، لقد شاخ دفعة واحدة قبل الأوان . تدفقت الدموع غزيرة من مقلتيها لم تقو على كبحها ، سرحت بذهنها بعيدا تقلب شريط ذكرياتهما :
أعوام الكد و المثابرة بكلية العلوم تكللت باحتفالهما بالتخرج ، هاهما يصطفان إلى جانب زملائهما فوق المنصة يشع وجهاهما بوميض آلات التصوير و الكاميرات ، ينتشيان بلذة النجاح و دفء مشاعر الأهل و الأحباب . لم تتوقف الفرحة هنا ، بل تضاعفت عند تعيينهما معا في مؤسسة تعليمية واحدة . عزمهما على لم الشمل ، أجواء العرس البهيجة : عالم وردي مخملي، ها هي ذي ترفل في فستان الزفاف الأبيض الناصع ، يعلو هامتها تاج مرصع بالجواهر الكريمة ، تختال ضاحكة فوق "العمارية"، والنسوة يرددن:
" الصلاة والسلام على رسول الله، لاجاه إلا جاه سيدي محمد ،الله مع الجاه العالي ". الزغاريد تطرز بهجة العرس، وشذا العطور فواح .
ثم فجأة حدث ما لم يكن بالحسبان إذ انقلبت حياتهما رأسا على عقب إثر النبإ المشؤوم : استشراء سرطان القولون الذي لم يكشف عنه إلا بعد فوات الأوان ، حصص العلاج الإشعاعي و الكيماوي المرهقة ، ليالي السهاد الطويلة...
قاومت بشراسة الإحباط المتربص بها ، لم تترك له فرصة افتراسها .
كانت حاملا في شهرها الأخير، داهمها المخاض ، تجمدت في مكانها ، نادت أمها ، ساعدتها على التمدد ، غطتها بملاءة خفيفة ، توجعت بحرقة ، ما هي إلا ثوان معدودة حتى سمع بكاء المولود ، كان ذكرا .
في تلك الأثناء استعاد الأب وعيه ، مال برأسه ناحية ابنه ، نظر إليه مليا ، ابتسامة ساحرة ارتسمت على محياه النحيل ، و نظر إلى زوجته نظرة دافئة حانية ، تحسست يديه الباردتين ، شعرت بخوف رهيب ، افترت شفتاها عن ابتسامة شاحبة ، ثم فجأة أرسل شهقة حارة ، و فاضت روحه الطاهرة .
صرخت صرخة مكتومة ، و امتقع لون وجهها ، حافظت على رباطة جأشها دونما جزع و لا فزع . و ضعت رضيعها جانبا و انحنت على الجثمان و طبعت قبلة طويلة على جبينه . نهضت بصعوبة بالغة ، لا وقت للنواح ، شمرت عن ساعديها و باشرت بنفسها مراسيم الجنازة . بقلم : محمد البوركي - المغرب .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة