Translate

الأحد، 8 مايو 2022

وِلادةُ رِوايـــــــــةٍ بقلم : فريد المصباحي/ المغرب

وِلادةُ رِوايـــــــــةٍ ...
لم ينتبِه حتى وجد نفسَهُ جالساً على كرسيٍّ خشبيٍّ تشتمُّ منه رائحةُ العودِ المتآكلِ ...
جاءه النادلُ على حين غرّةٍ ، وسألهُ :
- ماذا أقدّم لك سيدي ؟
قال له :
- فنجان كلمةٍ وحرفينِ وضمّتينِ ...
قال له النادلُ :
- لم أفهم طلبَك سيّدي !؟
أضاف :
- أعندك كتابٌ أو جريدةٌ ...!؟
تباً لكم لا تفهمُون سوى لغةَ العَصيرِ والسُّكر والتوابلِ والأفخاذِ السمينةِ والمُهرّجين والتّافهين ...
- لا لا ... !!!
- أشكرك لن أبرحَ في مكانٍ جميع أهلِه لا يفهمُون إلا لغةَ الطّعام والكلامِ في المنامِ ، لا يلبُّونَ رغباتهم إلاّ في الأحلامِ ، لا يجتمِعون إلاّ على أكلِ لحومِ الأنامِ ونَفخِ البُطونِ ...
غادر المكانَ دون أن يجدَ مكاناً يأويهِ ، ويرتاح فيه مِن ضجيجِ وفوضى المطاعمِ التي ما فتئَت تُملأُ فيها البطونُ دون أيةِ فائدةٍ ، ولا تَزيدُ للأجسامِ إلا الكولسترول والسُّكر والسُّمنةِ ، وأكثرُهم من صانِعي الأسقامِ والموتِ ...
توجّه نحو مكتبةٍ مُجاورةٍ فأخذَ يَتنقّلُ من عنوانٍ إلى آخر ، فكلّما وجدَ عنواناً عريضاً على مجلةٍ أو كتابٍ ما ، يُخرِج هاتفَه النقّالَ القديمَ ليأخذَ صورةً لهُ ، ويأخذَ أخرى مع كتُبِ المكتبةِ وهو يبتسمُ ، يُخيّلُ إليه أنّها مكتبتُه الخاصةُ ...
وما أكثرَ من يأخُذون صُوَراً مع مكتبتِهم الخاصّةِ ليقولواْ :
" ها نحنُ ذا مع مَكتبَـــتِنا "
رغم أنّهم لا يفتحونُ الكتابَ إلاّ نادراً ...!!
يَتّجِه نحو مكتبةٍ أخرى ليفعلَ نفسَ الشيء ، يَتصفَّح الكُـــتُبَ ويُخيّل إليه أنّه يأخذُ صوراً مع الكُتّابِ والشُّعراءِ والرّوائيّين العالميين الكبارِ في باريس أو لندن أو بيروت أو في بغداد ...
كلّما مرّ بزُقاقٍ كان يمرّ عبرَهُ كاتبٌ مشهورٌ أو شاعرٌ أو روائيٌّ يأخذُ صورةً لبابٍ أو نافذةٍ ذات الشّبابيكِ التّقليديةِ ...
يُقلّد مشيتَه ويحسِب نفسَه أنّهُ هو متجوّلاً بين أزقةِ المدينةِ العتيقةِ ، أو يُطلُّ من نافذةٍ أو واقفٍ بعتَبة بابٍ أسطوري وتفوحُ منه رائحةُ سيجارة محمّد شكري ...
يَتجوّل في مدينتِه لعلّه يُصادف شاعراً أو روائياً ، ليتَحدث معهُ عن عالمِ الرواياتِ والأشعارِ ، ويستَعرِضَ معه مشروعاتِه الرّوائيةَ وأفكارَه التي تدورُ في خُلدِه ...
يطلبُ منهم إن صادفَ أحدَهم مساعدةً لعلّه سيكونُ يوماً رائداً من رُوّادِ سُوقهم الثقافي ، ويجلسُ بِجوارهم ليُوقّعَ رِوايتَه التي لم تولدْ بعد حتّى في مُخيّلته ، ويُزاحِمهم في سُوقِهم الذي يعجُّ بالأدباءِ والصّحفيين ...
عالمٌ يَحلم به ويَستهوِيه كثيراً ، يَعتبرُه عالمَ الكِبار ، والأضواءِ ...
حيثُ أن مقياسَ الكبارِ لديه هم كبارُ العقولِ والمواهبِ والإبداعِ ، فكرُه كلُّه في الكُتبِ وهي تَملأ رفوفَ مكتبَتِه القديمةِ غير المُنتظمةِ والتي تَحْوي عناوينَ كُتب قديمةٍ تُذكّره بأدباءَ فرنسيينَ عاشواْ على أرضِ باريسَ ...
هوايتُه جمعُ الرواياتِ والأشعارِ ، وتخزينِها ثمّ وضعِ بعضِها على بعضٍ ...
قالت له أمّهُ يوماً :
- " يا ولدي لماذا كل هذا الهُراء والفوضى ، هوّن على نفسكَ !!!"
يمضي وقتَه بين الأوراقِ يَعشقُ رائحتَها ويستنشقُها كالمُدمِنين الذين يرتشِفون سطورَ الكوكايين البيضاء ...
يخرج صباحاً ولا يعودُ مساء إلاّ بكتابٍ بيدِه ، فخورٌ بذلك وكأنهُ فازَ بكنزٍ ثمينٍ في زمنٍ لا يُكترث به في عالم التافهين والمُولعين بجمعِ المالِ لشراءِ الجَهلِ والتّفاهةِ هكذا يعتبِرُهم ، يعشقُ الكتبَ ويهوى الكُتّابَ والشُّعراءَ والأدباءَ ، عالمٌ مليءٌ بالإبداع والمعرفةِ ، سوقٌ يغبِط رُوّادَهُ ...
عشقٌ ليس له حدودٌ ...
يحسبُه من لا يرى بعينيْه الفاحصتين أنه مجنونٌ لأنّه يُبالغ في مُيولهِ وكأنّهُ يُحضِرُ لنيلِ الدكتوراة في علومِ فيزياء الذَّرّة ...
يَعود مساءً ليركنَ في زاويةٍ من بيتِه القديمِ الذي تنبعثُ منه رائحَةُ الكتبِ ، الغُبارُ يعلو كلَّ شيءٍ ، يجلس كلّ ليلةٍ على كرسيّ مُتهالكٍ أصابتْه سوسَةُ الخَشبِ ، وتلك السوسةُ يعتبِر رنّاتها من عناصرِ الإبداعِ والتأمُّلِ والتي تكسرُ الصمتَ الذي يَسودُ المكانَ بطقطقتِها المُتناسقة المُتناغمةِ ...
يَتناول كُرّاسةً قديمةً ليخطَّ عليها ما جادَت به جَولاتُه وصولاتُه ، لتَنبعثَ كلماتٍ وجُملاً وسُطوراً مِن مُخيّلتِه ، لا متناهية من الأفكارِ والصورِ الإبداعيةِ التي تسيطرُ عليه ، جمعٌ من الأشكالِ الإبداعيةِ التي لم تكن تخطُر على بالِه ، حيث فاقَ تناسُلَها ، ولم يشعرْ حتّى وجد نفسَه يَشقّ سبيلَ روايةٍ بدأت فصُولها من زمانٍ تشتدّ لديهِ عوداً عوداً ، لم يَنتبِه حتى سمعَ أذانَ الفَجر بعد أن وجَد نفسَهُ واضِعاً رأسَهٌ الحاملَ من روايةٍ ينتظرُ ولادتَها بعدَ حينٍ ، بعدَ أن استفاقَ مذعوراً وهو على طاولتِه غارقاً في حُلمٍ طويلٍ ، كان قد تاهَ بين ثنايَاهُ وهو يوقّعُ على روايتِه التي رأتِ النورَ وهو في متاهاتِ المعرضِ الدولي في بغداد ...
إستفاقَ من ذلك الحُلم وهُو لم يكتبْ من روايتِه سوى بعض الكلماتِ :
" تبّاً لكُم لا تَفهمون سوى لغةَ السُّكّر والزيتِ والبطاطا واللُّحوم بأشكالِها وألوانِها وأنواعِها المختلفةِ ..."
بقلم :
فريد المصباحي/ المغرب
قد تكون صورة ‏شخص واحد‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل

  العين السابعة قصة قصيرة تأليف : متولي بصل        شاءت الأقدار أن أشتري شقة في دمياط الجديدة، وكنت في بداية الأمر أشعر بسعادة كبيرة، ...

المشاركات الشائعة