هواجس العقلاء
.
كل الشوارع تؤدي إلى الموت ... ليست روما وحدها من تحتل مركز اللقاء ، فالموت واحد من المفاهيم التي أهملتها بعض الأمثال الثاقبة ... هكذا كان يفكر "زهير" ، وهكذا يدخل باستمرار في حميمية منقطعة مع ذاته كلما خلف الواقع وراء ظهره وهو يداعب الأرض بخطواته المتثاقلة ... يقولون أن هواية هذا الفيروس اللعين اصطياد المدخنين ... هم الهدية التي يقدمها قربانا للبقاء كي يحصل على صكوك الغفران ، وأنا أدخن بشراهة ... فما الذي يمنع أن أكون أحد القرابين لهذا الفيروس ؟
يقترب من المخبزة وقد زلزلت خلده تفاصيل هذا الموضوع المزعج ، صار كلما اقترب منها شيئا فشيئا زجر هذه الأفكار اللعينة التي ترفض لانصياع إلى سكون مرغوب ... وأخيرا قرر أن الموت هو التفصيل الوحيد للحقيقة التي لن تضمحل ، ولا داعي للخوض فيها لأنها تشبه إلى حد كبير معادلة رياضية بسيطة الحل .
أخذ "زهير" خبزتين ... دفع المقابل ، ثم هم بالانصراف ... لم يأبه عند دخوله إلى المخبزة بتلك السيدة المكلومة التي تستعطف المارين كي يضعوا لها قدر قلامة من وقود الحياة في كفها ... تبكي بحرقة ثكلى – تلك المسكينة - ... لم تتوقع يوما أن الزمن سيفجعها في ساقيها اللذين يمدانها بالحركة والحياة ... توفي زوجها من ثلاث سنوات في حادث مروع ، وابنها الوحيد وقع في كمين جماعة مسلحة منذ عام ، هذه المسكينة التي تقبع طول النهار أمام المخبزة تبسط يدها للمحسنين كي تقتات من بقاياهم .
لم يكن لـــ "زهير" أن يعرف هذه التفاصيل لولا اقترابه منها إلى حد جعله يستنشق رائحة غبنها النتنة ، ثم راح يخلي سبيل تلك الزفرات كي تخرج بعد زحام شديد داخل خواطره للحظات .... وضع في كفها قطعة من مائة دينار ثم شد على رسغها مواسيا ، وهمَّ بالانصراف ... عندها باغته صوت سيارة الحماية المدنية التي تسير بسرعة جنونية متخذة خطا منعطفا نحوه ... توقف "زهير" من دون حراك وقد نالت المفاجأة منه حظا وافرا ... نزل من السيارة رجلان ( بلاستيكيان ) يشبهان إلى حد كبير بعض ملامح الموت ليصرخ أحدهما قائلا : « ... ابتعدوا بسرعة عن هذه المرأة فإنها تحمل الفيروس ... ابتعدوا !!!! ... نحن منذ أمس في بحث دؤوب عنها » ...
..... وقف "زهير" وقد تجمدت ركبتاه وهو يتمتم قائلا : « ... ٱه أيها الموت اللعين ... كنت على يقين أنك ستباغتني هذه الأيام » ............
.
دين العربي
الجزائر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق