فيقة القبر
بقلم / شوكت غرزالدين
اليوم صباحاً دفنوني في مقبرة المدينة. سقطت البارحة عن الدرج الخلفي لمنزلي. ومن توها اتصلت زوجتي بالطبيب مولولة. ولكنه لم يسمع نبضي. فأعلن وفاتي مترحماً عليّ وواسى زوجتي.
حسبتْ زوجتي أنّ الطبيب أسرع من الإسعاف. واقتنعت مع الجيران بأنّه لا ضرورة لوضعي في براد المشرحة لبرودة الطقس.
ونعوا الأقارب والمعارف من الرجال فحسب لتأبيني في من العاشرة حتى الحادية عشر. وفرضَتْ مقتضيات حجر الكورونا طقوساً جديدة للموت. كغياب النساء عن العزاء ليبكوني. فأدى المشايخ الصلاة على روحي فوراً وسرعان ما دفنوني.
ساعات وفقت في الحجرة، لأجد نفسي، في تابوت من خشب الأم دي أف، ملفوفاً بكفن أبيض وقدميّ مربوطتان إلى بعضهما بخرق من الكفن نفسه. كان تدكيكي بالقطن في الفتحات الثلاث رخواً... انتزعته بسهولة كسهولة تمزيق الكفن وخلع التابوت. لم أستوعب للوهلة الأولى أين أنا ولا ماذا حدث حتى أدركت نفسي بين التوابيت في المدفن، ورحت أصيح وأضرب بيدي على باب المدفن الحديدي. الرائحة ما زالت تلاحقني حتى الآن، ولولا بعض الفتحات والثقوب التي سمحت بمرور الضوء ما كنت ميزت شيئاً. ضربت الباب ضربات متلاحقة تشبه ضربات القدر غير أنّه لا مجيب، لا أحد ليفتح الباب. فكري يأخذني ويجيبني حتى انهرت لدقائق. وبعد سماعي لبعض الخربشات التي لم أميزها استجمعت قواي من جديد وعدت لأطرق الباب طرقاً مدوياً. سمعت من بعيد أصوات أبواق وإطلاق نار وقدّرت أن موكباً لعرس يمر في الطريق جانب المقبرة.
أرحت نفسي من الطرق ونظرت من خلال ثقب كخرم المسلة فأصبت بالذهول والهلع معاً للمحي عروساً بثوبها الأبيض، يحيط بها كالصحن المقلوب، وهي تقضي حاجتها في أحد زوايا المقبرة.
أهي إنس أم جن؟ الأرجح أنّها جن سيسحرني؛ فلا أحد من الإنس يقضي حاجته في المقبرة!
قلت في نفسي: "الحمد لله أنني أوقفت الخبط على الباب قبل ما يسمعها هذا الجن". وبدأت حيرتي تفترسني ماذا لو لم تكن هذه العروس جن، أأبقى هنا مستسلماً؟ بيد أنّه ماذا لو كانت جن، أأدله على نفسي بطرقي الباب؟
عدت أرقبها من الخرم وأتعوذ بالله وشعرت أنّ إيماني الذي بددته بالعلم قد رجع لي. ولكني بعد أنْ ربطت بين أصوات أبواق السيارات والباصات وإطلاق النار ووجود عروس في المقبرة تقضي حاجتها بدا لي الأمر معقولاً. لِمَ لا؟
صحت يا إلهي! وطرقت الباب بقوة واتجهت إلى الخرم لأرى ردة فعلها. ورأيتها تركض باتجاه مدفني وزادت دقات قلبي وصرت أتعرق وضاق نفسي. وما هي إلّا لحظات وكان موكب العرس بكامله يحاول خلع باب المدفن. أدركت لحظتها جدوى دفن الميت بلباسه.
وهكذا تم سحبي من المدفن حي أرزق، وسط أصوات لغط واستهجان وصفير واستنجاد بالله، أسمعها من كافة الاتجاهات. أخبرتْهم العروس كيف سمعت دق الباب عالياً ولم تستطع تفسيره يأتيها من المدفن. واستنجدت بعريسها الذي كان يحرسها على بوابة المقبرة. وركضت ليلحقها عريسها وباقي الفاردة التي كانت تجلب هذه العروس من قرية مجاورة إلى صالة للأفراح في مدينتنا الريفية.
أمّا العريس، وهو في ذهول وحرج من فعلة عروسه، فراح يبرر كيف أوقف السيارة لتقضي عروسه حاجتها، بأنها مصادفة جيدة لأنها استطاعت سماع خبطي من موضعها ذاك.
قمت ببعض الحركات السويدية حتى أحلحل جسمي المكسر. حدقت في الجمهور لم أعرف أحداً ولم أجد زوجتي بينهم. لا بدّ أنّها في فترة الحداد وتقبل التعازي.
التشويش يزّن في رأسي والطنين في أذنيّ والغباش يطبق على بصري وبصيرتي. أمسكت العريس من ياقة جاكيته الرسمي ورحت أهزه بقوة زادته استغراباً فوق استغرابه وخجله، وقلت له:
"مبروك. وإذا وعدتك بأنكما ستظلان معاً حتى يفرقكما الموت، فلا تصدق وعدها أبدأً".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق