Translate

الأربعاء، 8 يونيو 2022

" نظرة حائرة " قصة قصيرة الكاتب / يسري ربيع داود... مصر


 " نظرة حائرة "

قصة قصيرة
الكاتب./ يسري ربيع داود... مصر
............
شق صياحُ الديكة سكونَ الفجر ، البيت كله أصبح في حالة حركة بعد الصلاة ، أمي تجهز حقيبة ملابس لوالدي تكفي يومين لا أكثر ، بينما أبي على حصيرٍ في دهليز البيت يعبث في مسبحته ويحدق في سكون مطبق ، أبصرته من خارج الباب الرئيسي للبيت عبر نافذته يلقي على جدران البيت وغرفه ونوافذه نظراتٍ عجيبة، كأنه يودع البيت الصغير الذي يعتبر محصلة تعبه طوال أعوامه الستين، يمسح دمعة انحدرت على خطوط وجهه وتجاعيده، بدا جسده نحيلًا من أثر تعبه المتواصل في السنتين الأخيرتين، قام من مقعده وتحرك خطوات إلى الغرفة المقابلة ، تحركت قبالته ، رأيته يطبع قبلة على جبين أختي الوحيدة ذات السنوات الخمس ، خرج من الغرفة يترنح، يبدو عليه آثر التعب والمرض فبدا شاحبًا كأن قلبه يلفظ أنفاسه قبل أن تبدأ يد الطبيب في علاجه .
من الخارج علا صوت عمي الأصغر :
_ تعجل يا حج ، نريد ان نصل إلى المعهد قبل الظهر.
سمعت تنهيدة أمي من غرفتها، تدعو من قلبها :
يارب.. ليس لنا غيره، يارب عجل شفاه لأجل خاطر بنته الصغيرة. يارب لأجل حبيبك النبي اجعل الشفاء من نصيبه وقسمته.. يارب رده إلينا معافًى سليما.
خرجتْ لتساعد أبي.. ينظر إليها بانكسار، يبدو أبي لأول مرة محطمًا .. أفلت ذراعه منها بيسرٍ، لم يحب أبي أن يسنده أحد، فلم يعرف الضعف طيلة عمره.. ينظر إليها.. طالت النظرة، ومع دمعة رقراقة قطع الصمت بدعائه :
استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
تحركت السيارة أشار لأمي إشارة مسافر، فهوت أمي على ركبتيها ، بدأ البيت يصغر شيئا فشيئا.. المصباح الأصفر على باب البيت يتماهى مع أنوار الشوارع.. ذاب البيت في الملكوت حتى تلاشى ، ودعت نظرات أبي الحانية كل شيءٍ في الحي، لم تنس نظراته حتى طوارق الليل من كلاب الحي وقططه ... وعندما وصلنا إلى المستشفى في قلب المدينة كان الوقت قد قارب الظهيرة، طلب أبي أن نصلي قبل الصعود إلى الطبيب.
بعد الصلاة دارت عيني في المصلى، لم أجده، خرجت مسرعًا تسبقني دقاتُ قلبي الذي يأبى بعنفوان أن يبقى مستقرًا في مكانه... تذكرت وأنا في تخبطي أنه لم يتكلم معنا طول الطريق.. كانت ردوده علينا مقتضبة.. انشغل الوقت كله بتمتمات.. علمنا أنه يذكر الله ويدعوه تارة، وتارةً أخرى يذكر بصورة واضحة اسم أختي " ليلى ".. . كان ينظر إليَّ.. عينه تطلب مني طلبات كثيرًا ما كان يرددها علي :
_ أمك يا بني ليس لها غيرك.. لا تدعها وحدها في معمعتها.. أختك ما زالت صغيرة فارعها وحافظ عليها ؛ " ليلى" كعودٍ أخضر يحتاج من يسهر عليها .. اترك اللهو واللعب وانتبه لمذاكرتك.. أفق يا بني من غفلتك .
حفظت كلامه من كثرة ترديده على مسامعي، تذكرت يوم أن تململت من كثرته فربَّتَ على كتفي بحنان .. قال لي يومها :
_ يوما ما ستعي كلامي عندما يسقط عمود البيت!
لم أعِ قوله، رغم أنني أعرف مقصده.. تذكرت ذلك فجأة فخرجت اتكفأ.. سمعت هرجًا ومرجًا في الخارج، شققت الصفوف لأجد عمي يحمله على صدره.. تتساقط سيولُ الدموعِ على وجهه.. وما أن تلاقت نظراتُنا الحائرة أدركت قول أبي ..
"لا تترك امك وحدها، واترك اللهو واللعب وحافظ على ليلى" .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

قدر العرب للشاعر متولي بصل

    قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ  مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ وكمْ منْ بلاءٍ ح...

المشاركات الشائعة