Translate

الأحد، 17 يوليو 2022

في استقبال المستشفى د. إبراهيم مصري النهر - مصر



في استقبال المستشفى
د. إبراهيم مصري النهر
مصر
تلقي نظرة أخيرة على هندامها وزيها الرسمي إلى المرآة، إنه كما يجب أن يكون لا كما تحب. بلوزة بيضاء فوق جيبة سوداء وتتدلى (الكارافتة) الحمراء على البلوزة، لم يبق إلا شيء واحد وهو ابتسامتها التي يجب أن تكون حاضرة ولا تفارق وجهها أبدا؛ كونها موظفة استقبال بمستشفى خاص.. تبحث عن هذه الابتسامة في خلجات نفسها، في صفحات ذكرياتها لتزرعها على شفتيها، لكن أنَّى لها أن تجدها بعد أن أنهت مكالمة شقيقها هاتفيا للتو في بلدها النائي لتطمئن على حالة أمها الصحية، الذي أخبرها أنها ما زالت على حالتها منذ تركتها في آخر زيارة، لم تتحسن قيد أنملة.
في أمس الحاجة إلى جراحة قلب مفتوح، ذات تكاليف باهظة -والعين بصيرة واليد قصيرة- وبدأوا في إجراءات عملها على نفقة الدولة التي تستغرق وقتا طويلا لأخذ التأشيرة ثم انتظار الدور في قائمة العمليات الطويلة.
دلف إلى الاستقبال أثناء هذا الاستغراق في التفكير أول مرضى هذا الصباح، ردت عليه التحية مغلفة بابتسامة لا تدري أين عثرت عليها، وهزة من رأسها مصحوبة بانحناءة خفيفة.
نظر إليها، تأملها تأمل من يريد شراءها، نقَّل نظراته من أخمص قدميها مرورا بقوامها كله، وانتهاء بخصلات شعرها التي تحملها دفقات هواء التكييف الباردة لتداعب وجنتيها تارة وتنزاح عنها تارة أخرى...
لم تلق لنظراته المتفحصة بالا، وتظاهرت بعدم الانتباه لها، وسألته: أي عيادة تبغي؟
أجابها باختصار شديد، وبدون ذكر اسم طبيب معين، وبدون إملاء شروط محددة، وبعد انتباهة من شروده: عيادة الأسنان، وأكمل: ولكني أريد أن أتحدث إليكِ خارج نطاق العمل.. وكمن فقد لسانه أشار لها بيده إشارة من يطلب أن يجالسها.
ردت عليه بلغة ليس فيها خضوع ووجه اختفت ابتسامته المصطنعة: عفوا يا أفندم، لا أستطيع، التعليمات هنا صارمة بألا نتحدث إلى مرتادي المكان فضلا عن مجالستهم.
جلس في صالة الانتظار كالغارق ذراه.. تأكد أنه ينفخ في غير فحم.
ووقفت في مكانها خلف (كاونتر) الاستقبال الخشبي، وأخذت تتفرس فيه بامتعاض. لا تدري إن كان القبح الذي تراه فيه حقيقيا، أم أوحى به تصرفه معها. رأت جسما ضخما، وكرشا تقاوم ضغط القميص، ورقبة غليظة اضطر معها أن يحل رابطة العنق قليلا، وعينين جاحظتين خلف زجاج النظارة الطبية، وذقنا حليقة يبدو من تثنيها أنها أكثر من ذقن!
في ذات اللحظة دخل مدير المستشفى ولمح هذا الرجل، اتجه إليه بخطوات، يهتف مبتهجا: أي ريح طيبة ساقتك إلينا يا سيد بيه؟!
وانحنى ليصافحه.. لم يقف له وصافحه جالسا.
حدج الموظفة ببصره وخاطبها بحدة لائما ومعاتبا: لماذا لم تفتحي لمعالي الباشا غرفتي يا مي؟! ألا تعرفين سيد بيه الشابوكشي أكبر رجل أعمال في بر مصر!.. حسابك معي فيما بعد.
استنهضه واصطحبه إلى مكتبه متأبطا إياه..
في الطرقة تذكر مرض أمها؛ التفت إليها وسألها: كيف حال والدتك اليوم يا مي؟
نظرت إلى الأرض وبصوت خفيض أجابت: الحمد لله.
بعد دقائق معدودة طرقت مي الباب وقدمت مشروب الضيافة وانصرفت..
قال المدير: مي ليست في غاية الجمال فقط بل في قمة الذكاء أيضا، لكنها ليست على ما يرام هذه الأيام نظرا لمرض أمها.. وسرد له حالة أمها الصحية بالتفصيل..
تبسم رجل الأعمال ابتسامة عريضة كمن وقع على صيد ثمين، وقال: أنا أتكفل بنفقة العملية كاملة من الألف إلى الياء، وفي أكبر مستشفيات القاهرة أو خارج مصر على حسابي الخاص، وتُجرى لها اليوم قبل الغد.. وأسرَّ إليه بشرط، واستأذنه.. أوصله المدير إلى عيادة الأسنان، ثم استدعى مي وسمح لها بالجلوس وقال لها: ستُجرى لأمك العملية في أقرب وقت وفي أكبر المستشفيات، ولكن...
وقبل أن يكمل؛ هربت بعينيها بعيدا، وبوجه يفتعل الابتسامة قاطعته بصوت مغصوص: أوافق على الزواج منه! أوافق على هذا العرض!
د. إبراهيم مصري النهر
مصر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركات الأعضاء

قدر العرب للشاعر متولي بصل

    قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ  مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ وكمْ منْ بلاءٍ ح...

المشاركات الشائعة