Translate

الثلاثاء، 7 يونيو 2022

تشابه سوسن يحيى / العراق


 تشابه

سوسن يحيى / العراق
بينما كانت تحسم امر.. استقالتها عن الارتباط.. وتكتب قصيدة رثاء الأمنيات وتعلن سرا للنبض بينَ عقلها وقلبها.. صادفها..ذلك العصامي.. المتكبر على كل نساء الأرض..
فمرت به عفوية خجلها..لتأسر روحه الأنيقة بملامح الحياء في زمن الكاسيات العاريات
رق قلبه ودق بابها.. وقبل يد حارس دارها
فاوصدت باب التوغل.. بعهد أخذته من ازمان..على نفسها ..بقين كرامتها .... وعقل ينبض بخافقيها... ان لاتفرح ابدا بعد رحيل والدها..... وكأنها لم تودع باحة طفولتها
باصرار تريد أن تبقى البنت الوحيدة للوحدة...و أنيسة القصائد.. وشمع القوافي...
ومدللة... عائلة..الصمت الفريد
ولكنه داهمها..بعيونه المغرورة
بوجهه الوسيم.. بنور لم تبصر به طريقا من قبل كملامح ابيها... الغائبة الحاضرة.... ذلك الرجل الراحل بهيبة الخطوات... في هالة الأزمان
بصفات اهل الجنة الطيبين
عجبا يامن تخلق من الشبه أربعينا
كيف كتبت ان تتوج أميرة لهذا الملك
الفطن... المشرد في ترف... الامبالاة....
..هاقد توسل بها...عقدا من الصبر.. والتحمل... ووساطات... ورسائل ممزقة بدموع الفشل
و الاحباط
سجد اخيرا ..... لله وقااااااال شكرا ياخالق الأرواح .. لابد ان العوض منك انفس خاتمة .

بين شروق وغروب إدريس الزياتي - المغرب


 بين شروق وغروب

كانت الشمس تلوح للعشاق ذلك اليوم على غير عادتها ، شيئ ما وقر في قلبه، عندما انسكبت على البحر بلونها الحقيقي الأبيض عارية ،كأن الأزرق والنيلي والبنفسجي قد خذلوها هذه المرة ، استعارت من البحر بعض رونق لتستكمل رحلتها المعتادة ، جلس سعيد _الذي لا يحمل من الإسم غير رسمه _ القرفصاء على تلك التلة البعيدة يراقب التفاصيل الدقيقة بين السماء الزرقاء والبحر بلونه اللازوردي ،يخط بعود صغير أمنياته على الأرض بجوار قدميه ، أحلامه التي ترافق الشمس ذهابا وإيابا علها تسقط في يده يوما ما ، لا حيلة له إلا الصبر والإنتظار.
المساءات الهادئة المتفلتة من صخب الحياة هي الوحيدة شغفه وراحته بعد كد ، لا يسعفه الليل ولا النهار لمراوغة واقعه، بعد هجرتها لا ستكمال الدراسة بالخارج ، يرمي ببصره إلى الجهات الأربع ، لا يفوت الفرصة إذا ما سمع صوتها المبحوح، كلما اقتربت من مرفئها، تلكم السفينة التي قد تحمل له الأمل، يقوم الحلم مترنحا في قلبه ، ينعره ، يستفزه برمية بصر سريعة لعل وعسى ، كلما هم بالذهاب، تذكر قدره، وتلكأت قدميه عن المسير ليغرق في التفكير لفترة.
يتنفس بين الغياب والإياب، بين الألم و الأمل أريج الحنين، الذي طالما ملأ صدره ، بنسائم العشق المضمخة بجنى مرحلة البوح الحقيقي في سنواته الجامعية الأولى ، ذاك الهبوب الذي لا ينطفئ، يراهن على بزوغه من الغرب، لكن الشرق ير هقه بأحماله التي لا ترحم، لا يراوح مكانه، لكن الأفكار تسبقه إلى حيث قلبه الذي حزم أمتعة عمره وأخذ حقائبه إلى المجهول.
المساء هو الرهان الوحيد لديه، كلما همت الشمس بالغروب انتفض قلبه كالذبيح، كأن الأمل معها يغرب، تتناوب في مهجته مشاعر القرب والبعد الحب والصد، تسيل دموعه على خده جارفة محرقة تكون له السلوى والفسحة. لا وجهة له غير السماء ولا عين تطرف خارج زرقة الماء.
كانت شروق تمسح الميناء ببصرها علها ترى فجأة ما افتقده طيله سنوات أربع من الشوق تعالج ندوبها بالصبر والجلد والكد المتواصل تسابق الزمن مفعمة بالأمل، تروي عطش السنين بريقها ، منتصرة على نفسها التي طالما راودتها لتنسي عشقها الأول ، بكل صروف الإغراء وألوان المتاع، أخذت من شموخ الجبال التي عانقتها صغيرة علوها وثباتها في آن ،مشتاقة للماء الزلال النابع من صخور عشقها الصلبة التي تمتح من جغرافيا الإباء والشممَ و كيمياء العزة والصدق.
استدار ت الشمس على هيئتها من جديد فكا ن لشروقها في الغد طعما آخر. كزهرة زادت نضارة مع ندى الصباح عندما رمقها وقد تفتحت وهي تسافر بعينيها إليه من تلكم النافذة التي فتحت في قلبه قبل عينيه، أشرقت معها السعادة في قلبه ليعزف سعيد عن مشاهدة الغروب و وتشرق شمس قلبه من جديد.
إدريس الزياتي
المغرب

كانت تُؤْنِسُ قصّة قصيرة للأديب التونسي :أحمد بو قرّاعة


 قصّة قصيرة للأديب التونسي :أحمد بو قرّاعة

كانت تُؤْنِسُ
نهض باكرًا كعادته.أفرجَ عن شبّاكيْ النّافذة .تاتي أُويقات الفجر بنسائم لطيفة تُحصِّنُ شاربها من ريح النّهار و غُبارهِ و صخبِهِ .قلبٌ شابٌّ يَتَشَرّبُ نسائم رقيقة و نظيفة يزرعُ بهَا الحياة في جسد متعب و منهك .جسد هبَّ و دبَّ و بدأ المسير يُعْييه و يتعبهُ و يُثقِلُ عينيه و يديهِ و ركبتيهِ .
اكتسب عادة الوقوف إلى النّافذة حديثا ،عادة مكتسبة منذ صار يقيم في هذه البناءة العالية في هذه الطريق الطّويلة المتراصّة بالبناءات المتجاورة و المتقابلة .بناءات متحاذية و متقاربة و متواجهة تحُدُّ من مدى البصر و تجبره على الإرتداد و تكرهه على قصر البصر ، و تمنع عنه الأفق الرّحب ،أفقٌ يراه و يرضاهُ رغم الأتربة ، و بالرّغم من كلّ ما كان يزعجه أو يؤلمه أو يضرُّهُ من ريحٍ ذات غبارٍ و حمّالةِ مفاسد يثيرُها أسيادُ النّاس و علِّيُوهم و أقبضهم يدًا على أعناق البشر و الشّجر.
نسائم ما زالت خفيفة و نظيفة تمرّرُ راحتها النّاعمة على الطّريق الفارغة من كلّ صوت و دبيب .نسائم لم يخالطها بعدُ ما تفرج عنه النّوافذ و الأبواب و الأفواه .فهي نقيّة و تقيّة ما لم تُفْتحْ نافذة أو يُعَرّج باب أو يَلْغط فم أو تتعثّر قدم.
ظلّ الرّجل واقفا إلى نافذته يرْمي بصره إلى آخر الطّريق كمن يخلّص البصر من المحدود و الضيق .فجأة أُزيح ستار عن نافذة مقابله و ظهر خلف بلّورها جسد يُسَرِّحُ ذراعيه و بُمدّدهما في الهواء كسلا و إعياء كالمستلذّ ارتخاءً لا يريد أن يَطْرُدهُ عنه.لم تكن نافذة تُفتَحُ في مثل هذا الوقت .نظر فلم ير إلّا جسدا يحاول أن يستفيق و لم يُبْصِرْ سوى يدين تسرّحان شعرا طويلا كأنّما الرّيح كانت به تعْبَثُ . اجتهد محدِّقًا لعلّ ذلك الوجه قد يَبَان له .و انار غرفته فرأَتْ المراة منه ذلك فانتبهَتْ غير متراجعة و حدّقتْ فيه كما حدّق فيها و أنارت غرفتها .إنّهُ يَعْرِفُ ذلك الوجه الجميل و يعرف ذلك الشعر المذهّب الطويل المتهدّل على الكتفين .
واختفتْ المرأة لحظة لتظهرَ من جديد و وقفت تنظر إلى الرّجل وهي تجمع شعرها كُبَّةً لتلفُّهُ في خمارٍ أسود ثُمّ وضعت لباسًا يُلائم خمارها فأسدلت ظلاما على ضياء و لم يعد يظهر منها سوى رمش عين ثمّ نزعت سريعًا كلّ ذلك لتبدو من جديد في قميصٍ يكاد لا يستُرُ شيئا . حدّقتْ عينٌ في عينٍ وارتوى نظرٌ من نظرٍ و غارتْ لحظةٌ من الزّمن في الزّمن الماضي البعيد.
و سدّ الرجل النافذة و غلَّقها و أطفأَ النّور و سحب كرسيًّا ليجلِسَ قِبْلَتُهُ نافذة المرأة صامتًا لا يتحرّك ليّنَ الأعصاب مرتخي العضلات .
-أنا "العَرْبي" و النّاس ينادونني "الفَرجَ".وقد يجمع البعض الإسمين ترتيبا و منهم من يقدّم الثّاني عن الأوّل.و ضحك الأب ضخكة المستهزىء المملوء غيضا و حنقا و تكبّرا و أغمض عينا لينظر بمؤخّرة الأخرى قائلا لمحبٍّ مثلي
-"إن كنتَ أنتَ الفرج فما الذي في أمّها و فيها قد يكون ؟"
و هل أحتاج أنا "العرْبي"إلى عقل كي أُدْرك بسرعة أنّي مُحْتَقَرٌ .طلبتُها و أطْلبها و راغب فيها مقيمة ٌ فيَّ و ساكن فيها .الأدب لا يقف ندًّا للمال و المعرفة لا تطاول المكانة و النّفوذ و الشعر و المقال لا يرتعان في هذا الكبرياء المقيت .لا غرابة فهذه الطّبقة تلوي كيفما تشاء رقاب الألفاظ لتنحو بها إلى مسالك القبح و أحاديث الهمج و سمّار الحوانيت الفاسدة عقب اللّيالي الرّديئة .إنّها ذلك و كذلك و لو تحلّت و تزيّنت و تجمّلت و ألبست خداعها التّهذيب .مغدورة معذورة و أنّى لهذا الجمال بمجابهة هذا العتوّ وأنّى لهذه الخضرة اليانعة أن تقف في وجه المصيف و الحرّ و اليبسِ .ساكنة كالمتفرّج فؤادُه في غير ما يرى و عينه غائمة".
و تراءى له وجه أبيه يحفّظه القرآن و يعلّمه آداب الجلوس و الأكل و المحادثة و يحبّبُ إليه استنبات المرعى من التّربة لتحيا الماشية .ويقبض على حفنة التربة فيشمّها بقلبه فيعرف مقدار حاجتها من الماء ."يا بنيّ حيًّا ما دمت تُحييها "واستمع إلى صوت مؤدّبيه و معلّميه يحفّظونه الشعر و الأدب و يبيّنون له الطّرائق و يرغّبونه في الفضائل "أيّها الفتى توسّع في قول أبيك"
و أُطرِدَ من المنزل الفاخر مصرًّاعلى حبِّها و جمعها في قبضة يده كما كان أبوه يقبض على حفنة التّراب فيشمّها بقلبه.
"و عنْ أيّ ماء قد أفيض فَأُحْييها .نظمتُ في حبّها شعرًا و كتبتُ إلى والدها بي و بها رأفة و رحمة و بناء لكيان آدميّ يحبُّ و يفكِّرُ ،هل أخطأتُ حين أنْطقْتُ الحرف نقدًا و جلاء عيوب فَحَصَرنِي أبوها و أصحابه و أتباعه في ركن لا هواء فيه فَأَسْكُتُ حينا و أَهِيجُ أحيانا حبًّا فيها و هوى "ماالذي يستطيع فعله مُحبٌّ تربّى في نصيحة والده و معلّميه و ليس له سوى حروف يؤلّف بينها فيُحْسنُ تارة و قد يُخطِىءأحيانًا ،و ليس له غير لسان يتحرّك في كلّ الجهات فيُمسكه طورًا و تظطرُّه نفسُه أن يُطْلِقهُ مرارًا و مرارًا فيما يرى و يرغَبُ فيه. أأحملُ خنجرا أُقاتل به حاكمها و محكم يدهُ عليها ؟
و ظلّ الرّجل جالسا إلى النّافذة المغلّقة لا يتحرّكُ يجول بصره في أنحاء الغرفة المظلمة كأنّما العين تبحث عن شيء يسافر به إلى أنحاء أخرى و يرحل إلى أزمنة تولّت فيدفع صدره إلى الأمام كالنّافخ فيه فيعلو لترتخي رأسه إلى الوراء "أصدري ضيّق لم يسع غيرها ، أهي النّساء جميعا و سواها كذبٌ ،أصدري فسحةٌ لها و ما نَبَتَ فيها من شجر و ما رصّفَ من مرمر و حجر و ما ظهرت فيها من فسيلات تريد أن تكبر دون أن تقطعها يد عاتية و متجبّرة ،يدٌ تريدُ أن تستاثر لنفسها بالماء و بالهواء و تقبض بأصابعها اليابسة على الرّؤوس فتعصرها و تؤلمها و تغرز اظافرها في الفؤاد و في الحسّ فتدميهما .
ما كنت أريد سوى ماء عذب و هواء نقيّ يغذّيان فكرًا طليقا و نفْسًا منْعتقةً و سابحةً .كم قبّلْتُها بالشعرو لثمتُ فمها بالمديح و زيّنْتُ خصلات شعرها بالنّعوت نكم كنت بارًّا بها حين غرزت ناب قولٍ في حاكمها و القابض عليها فتضحك كالأمِّ المغلوبة ترى في صغيرها سندًا و ترى عصارة ثديها تَخْتَمِرُ لتًُسْكرَ أو تُهَيِّجَ الغضب .حتّى التربة التي قد تعلق بها لقد نفختُ عليها من عشقي فغسلها و طهّرها .إنّها مدينة جميلة و تزْدان .و كلّ ما يلقى في شوارعها أو أطرافها من أوساخ و أقذار فسرعان ما يزهر فيها الشّجر فيعْبقُ قلبها و سريعا ما يهطل المطر فيحمل ما تكدّس و يُلقيه بعيدًا .في كلّ مدينة شجر قد أزهر و يُزهرُ و لو عبثتْ بالرّحيق أياد ماكرة و في كلّ مدينة مطرٌ قد هطل و يهطلُ و إن حالت دون مجراه رؤوس كبيرة مسطّحةٌ عيونها تأكل السّماء و الأرض و عصاها تلقف كلّ خير كعصا موسى ، في كلّ مدينة قلبٌ مُحِبٌّ يجادِلُ قلبًا آخر من حجر الصّوان .و ما بين هذه المدينة الجميلة و بين هذا القلب المحبّ شبابيك من حديد .كانتْ مدينةً تُؤْنِسُني تَحَجَّرَ قلْبُ ماسكها و تيبَّسَتْ قلوبُ أصحابِهِ .ليس لي سوى قلبٍ يُحِبُّ".
مضى على الرّجل "الفرج العربي" زمن قصير ساح و تاه فيه .و أزال السّتار يريد أن ينظر من فتحات خشب الشبّاك كالخائف يتوقّعُ خطرًا .أبصر فإذا نافذتها مفتَّحَة ورأى خلف زّجاج بلّورها الأبيض الصّافي و السّميك رجالا يبدو أنّهم يتهاوشون كالكلاب السّائبة و يتهار ُّون كقطط المزابل ، وحصر النّفس في صدره و مدّ رأسه إلى الشّارع السّاكن إلّا من بعض أصوات عصافير المباني التي كانت تبدو مزعجة كأصوات الرّعد المنفلق في الرّؤوس .و بدا كمنحوت ثلج باهتٍ في صقيعٍ لاذعٍ يحاول الإصغاء فما التقط سمعه حرفًا فسبّ الزجاج و كاد يقول في صانعه وواضعه .اجتهد يحدّق في الرّجال فإذا هم خليط لا يجتمعون إلّا يوم جمعة فرضٍ حضورٌ لا هَوَشَ فيه أفسدَهُ اختلاف في حياةٍ .فتناثر بصاق لحية و صاح وجهٌ محسّنٌ و بينهما وجهٌ أمردٌ نافرٌ غاضبٌ و تشابك الشّرع مع الحياتي لِيَنْتَفِضَ المُستجدّ.
استعصى عليه فهم ما يرى خلف الزّجاج و غدرت به الإشارات و هَزَّ الأذرعِ و تلاصقِ الأجسادِ و تدافعها ،فما حيلَ إلى موضوع .فصاحب اللّحية شيخ بدين طويل اليدين ،عريض الكتفين ،غليظ الأصابع ، جاحظ العينين ، منفوخ الشّفتين ،أفلجٌ ،بارز الأسنان يبدو و أنّها من عاج أنياب الفيل ،يمسك بيديه خمار المرأة و محرمتها و يعضّ بأسنانه على نقابها و يشدُّ تحت ذراعه على إزارها و يضع على كتفيه حِزامها و يقبض بين فخذيه على محرمةِ رأسها منتَصِبًا جملا قد هدرَ كمن يكرِهُ المرأة على ذلك وهي واقفة جسدًا رشيقًا متناسِقًا جميلا غضّا يانعًا مزهِرًا تنظر بعينٍِ تريدُ أن تبتسم للحياة .و يحولُ بين الشيخ و المرأة رجلٌ يدانيه عمرًا لكنّهُ رقيق أملس الوجه مجعّدُ الخدّين أنيق اللّباس كالمدعوّين إلى أفراح ذوي الجاه و المال متجمّلين متعطّرين متهذّبين يدفَعُ بيديه الضّعيفتين حامل الإزار و متأبّط الخمار عن المرأة و يقف بينهما حاجزًا فترتفع الأيدي و كادت تتشابك فيسقط ما كان بين فخذي الشّيخ البدين فيدوسُهُ الاخرُ بقدميه.ووراء الّشيخ منهما أناسٌ مختلطون يتصايحون و بهم لغطٌ .وجوهٌ لا تدلُّ على نعيم قولٍ و حركات تشي بالتّنافر و الخصام و كلّما أراد أحدهم اكراه المرأة على لباسٍ تقدّم الآخر ينْزعه عنها ليكسوها غيره فمنه المسودّ ومنه الرّمادي و منه الملوّن المزهر و منه ما يلائم وجهها ذهبا وعينها خضرة و قدّها مقاسًا و زينةً ، والمرأة في كلّ ذلك تنظر فيهم بعين تريد أن تبتسم للنّهار و بعين أخرى تكاد أن تفصح عن غضبٍ .
وانفرجت بقية الفجر عن تباشير الصّباح و خفتت أصوات العصافير لتنطق أصوات بشريّة فمنها السّعال و منها الكحّة و البحّة و منها "يا لطيف الطف بنا"وغلّقَ الرّجال النافذة و أحكموا الشّبابيك.
و ظلّ الرّجل ينظر باهتا "ماالذي أوقع المرأة الجميلة التي كان يحبّها منذ شبابه الأوّل بين هؤلاء القوم ،ليس القدر طبعا .القدر بريء ،أيّة أحداث ساقت هذه الأكرُع و هذه الوجوه المختلفة إلى المرأة ؟وهذه الأحداث ما أحمقها ألم تلد سوى هذه العيون القاتمة و القاسية و الألسن الكاذبة و أخفاف الجمال و سنابك البغال...."
ظلّ الرّجل و تاه فترك الغرفة إلى الشّارع فإذا به يبصرُ القوم في الطّريق يتجادلون بصمتٍ و بإيماءاتٍ لا توحي بانسجام و المرأة وراءهم تكاد تتعثّر رصينة الخطا ثقيلة المشية ترتدي خضرة البساتين غير أنّها حافية القدمين يدميهما الحصى و يقرّص عينيها البرد .فالتفتت إلى الوراء فأبصرت عاشقها الأول و كادت تعود إليه قافلة فأسرع نحوها حتّى لا تتراجع فهمس في أذنها فضحكت و أزهرت و أينعت واخضرّت ثمّ قال بصوت مسموع "لقد جبتُ الأرض فأنتِ أنتِ ..و رغم هذه الفتنة بين ذراريك ما زلت مؤْنِسَتِي أنا ومن أخذتُ عنهم و من اتّبعوا سبيل حبِّك أيضا".
أحمد بو قراعة ـ تونس

عندما تنبح الكلاب بقلم / سلمان يوسف فراج - فلسطين


 عندما تنبح الكلاب

الليل أشد سواداً من ذيل الغراب، والمطر يهفت، والصمت عميق كأنما يتغور في نفق سحيق، وسعد الصابر يرهف السمع من مكمنه خلف شجرة التفاح متحفزاً لكل طارئ.
قال له والده مرة: (( إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب))، لا يذكر بالضبط متى كان ذلك، لكنه يذكر تلك الصرامة في ملامح وجهه والنبرة الحادة في صوته، ورغم أنه لم يكن ذئباً مع لداته أبداً إلا أنه لم يطق أن يكون مهضوماً في يوم من الأيام، وها هو يتحدى المهانة ويقف لها بالمرصاد.
قالت له زوجته أمس (( لو تكف عن هذا الوسواس))، تظاهرَ بعدم الفهم وسألها إن كانت راغبة بمشاركته في احتساء القهوة التي أعدها للتو.
عندما تنبح الكلاب في الظلام لا شك أن آدمياً يتحرك، وفي مثل هذا الوقت فإنه لا بد آدمي مشبوه، لهذا قفز من مقعده كالقط وفتح باب البيت بحذر شديد وابتلعته الظلمة إلى مكمنه خلف شجرة التفاح حيث كان قد ثبت لوحاً خشبياً بين جدار الحديقة وجذع التفاحة ليقيه المطر، وها جاءت ساعته الآن.
المطر شديد والبرد شديد والصمت يلف الكون وكلب الجيران كف عن النباح، لعله رأى قطاً هارباً من السيل المتدفق فنبح، أو لعله فوجئ بوقع الهطل فأعلن وجوده واندس يلوذ من البلل والبرد.
تحسس سعد ما خبأه تحت معطفه ليستعين به في مفاجأة المتطفل في هذا الوقت ثم شد أطراف المعطف حول جسمه ومؤخرة رأسه، وتمنى لو يشعل سيجارة، وراح يغرز بصره في العتمة ويرهف السمع وينتظر ، فقد تكون الليلة نهاية انتظاره، إذ يقول العارفون إن المجرم لا يفتأ يحوم حول مكان جريمته، من يدري؟ أتكون الليلة موعد الحساب؟ إن كان كذلك فربما ينجلي الأمر عندما ينقطع المطر أو عندما يخف، إنه لا شك يرقد في مكمن من البلل يتفحص الليل ليهب إلى مراده، أحس سعد بقشعريرة تسري في بدنه، لن يكون ليناً (( فمن لا يكون ذئباً أكلته الذئاب)) سيراقب تحركه، لن يدعه يغيب عن عينه، وإذا لزم الأمر يلحق به بخفة وحذر ثم يفاجئه متلبساً.. وعندها..
مرة أخرى ملأت القشعريرة بدنه، أيهوي عليه بضربة تفقده صوابه؟ ثم .. وماذا لو تبين له انه ابن أحد المعارف؟ وماذا لو آذته الضربة؟ وقد تكون قاضية؟ يضربه إذن ثم ينسل إلى البيت فلا من سمع ولا من رأى، ومن يضمن أن الأمور ستسير هكذا؟ ألا يمكن أن يصرخ أو أن يحتمل الضربة ويهب من هول المفاجأة ليدافع عن روحه؟ ... إذن ينتهره قبل أن يقترب منه، وعندها يسمع الجيران فيستسلم ويسلم للشرطة... ، ومن يضمن أنه لن يهرب؟ أنه لا شك موقن النفس على ذلك ولا بد أنه حاذق في الأمر ويحسن التصرف فيه، ثم ماذا لو أخذ المهرب عليه؟ ألا يعقل أن يقاوم؟ بل هل يعقل لمثل هذا الصنف من الناس أن لا يكون مستعداً لكل الاحتمالات؟ ليكن ما يكون، المهم أن لا يفلت بدون اعتراض بل الأصح بدون عقاب.
مسح الماء المتهافت على جبينه من أحد ثقوب اللوح وحرك جثته ليتفاداه، فحرك اللوح الخشبي فوقه وسمع له صرير خافت جعله يتسمر، ثم ملأت الكون فرقعة متلاحقة للرعد وتبعها نباح كلاب لم يفتأ أن أغرى كلب الجيران بمشاركة لم يرتح لها، خُيّل له أنها آتية من مكان عميق، وعقب ذلك ارتطامُ المطر الغزير بالأرض فابتلع كل الأصوات إلا صوت خفقان قلبه.
آه لو يشعل سيجارة، كم هو مشتاق لأن يفعلها، ستُهدئ من تشنجه وانفعاله وتعوضه حرمانه من دفء الموقد إلى جانب زوجته أمام التلفاز، بل أنه سيفعلها، ولم لا؟ ففي مثل هذا الجو العاصف لا أحد يراه، وسيشعلها بعد أن يغطي كل رأسه بطرف المعطف ومن ثم يأخذها بكلتا يديه ، ويطبق عليها بكفيه، ويمج، ويطلق عينيه في كل اتجاه، من الأفضل أن يسرع إذن - قال في نفسه – قبل أن تسكن العاصفة.
أشعل سيجارة ومج حسبما خطط وراح يحدق في العتمة من جديد، ثم غمر وجهه بكفيه مرة أخرى ومج وحدق... ومج وحدق.. بدأ يخف صوت ارتطام المطر، وبدأ الهدوء يعود رويداً رويداً ... ولم تعد الكلاب للنباح، وتأهب، لعل الليلة تكون نهاية انتظاره. أحس بخدر في ركبتيه فاتكأ على رجله اليمنى ومج وأطفأ السيجارة واستعان بساعده الأيمن، ثم لم يلبث أن تحول إلى اليسرى ... ثم إلى اليمنى ... ثم إلى اليسرى ... ثم لكلتيهما .. ثم انحنى للأمام متكئاً على ركبتيه وساعديه معاً، ومد رأسه قدام جسمه ليواصل التحديق فخرج عن مدى اللوح الخشبي من الجهة المنحدرة وسال الماء على مؤخرته وعلى أذنيه فانتفض وتراجع للخلف بحركة سريعة لا شعورية، فارتطم قفا رأسه بحافة اللوح وآلمه كثيراً لدرجة أسالت الدموع من عينيه فمسحها بكمه، ثم أحس بسائل يملأ منخريه ويسح على شفته العليا فعالجه كما عالج دموعه.. وعبثاً حاول أن يكتم عطسة استحكمت وأبت إلا أن تنفجر بين كفيه، وفيما هو يعالج حالته هذه ويغالب عطسة أخرى سمع حركة ركض باتجاهه فوثب متأهباً بأقصى ما أوتى من ردة الفعل ووقف معترضاً فاستدارت الحركة وعند عامود الإنارة لمح كلب الجيران في أثر كلب آخر غريب.
بقلم /  سلمان يوسف فراج - فلسطين

الحب وحده يكفى أمير بازيد - مصر..


 الحب وحده يكفى

أمير بازيد
مصر..
دقت ساعة المتحف النحاسية العتيقة دقاتها الرتيبة ببطء عميق معلنة عن انتصاف الليل كدأبها القديم، حتى بعد أن شاخت تروسها وغزا الصدأ الأخضر أحشاءها وعلا هامتها الشامخة غبار ناعم نعومة الأفعى قبل اعتصار فريستها العاجزة، ولولا ذلك الطفل الصغير الذى يأتى لزيارتها مرة كل تسعة أشهر ليطعمها بعض قطرات الزيت الرخيص وينفض عنها قليلا من ذرات الزمن المتراكمة فوق قلبها المتهالك، لماتت منذ عقود.
تحتها وإلى اليمين منها تقريبا،إستقرت بثبات وهدوء لوحة متوسطة الحجم قد احتضنها برفق واضح إطار خشبي قديم ذو لون أخضر أيضا ،لكنه من صدق لونه يحسبه الناظر يكاد أن يورق ويحيا من جديد ما أن تمسسه قطرة من ندى ضلت طريقها أو همسة مديح عابرة يطلقها أحد رواد المتحف النادرين .
كانت اللوحة لفتاة ثلاثينية بيضاء ذات جبهة عريضة أبية، وشعر فاحم ناعم وعينين رائعتين مترددتين وغاضبتين ،قد أبدع تفاصيلهما الرسام المجهول رسما ،مستعينا بألوان زيتية طبيعية ونقية ، أوشكت من نقائها أن تضئ المكان ،ورغم البراعة والجمال المنزويين فى كل ركن من أركان تلك المعجزة ،كان الشجن الموشوم على الخطوط والقسمات ينبعث مختلطا برائحة القماش الصامد الأصيل، ولم يكن ذلك ليخفى أبدا على العيون المبصرة والقلوب الفاهمة البصيرة.
ومع آخر الدقات النحاسية ،ولدت حشرجة قفل صدأ فشل أن يحرس الباب الكبير ،ليظهر من العدم (نبيل) ذلك اللص التعس ،والذى قرر احتراف سرقة المتاحف بعد أن فشلت موهبته العبقرية فى رسم اللوحات فى أن تؤمن له مايستر به عورة بطنه وفرجه ،فكان بسرقاته هذه كأنه ينتقم من الألوان والصبغات بطريقته الخاصة وينفذ قصاصا و ثأرا فيهما ومنهما لا ينتهيان،إضافة إلى إسكات أنين أمعائه البغيض.
لكن هذه المرة،ربما تخلت عنه تعاسته وهدته قدماه للوحة الحزينة.وبينما إمتدت يده الماهرة فى السرقة مهارتها بالرسم ،واقترب ينزعها من إطارها،نظرت إليه الفتاة بعينيها البريئتين وربما هو من نظر إليهما أولا، ما يهمنا هو أن أعينهما تلاقت فى ليلة باردة من ليالي يناير الحزين ولفهما ضوء خافت قد انبعث من مصباح كهربائى قديم حركته نسمات هواء ضعيفة انسابت من فتحة ضيقة محكمة بالسقف العالى ،فإهتزت شعاعات نوره كأنها ساقان لراقص أعرج قد أصيب في حرب ظالمة لا ناقة له فيها ولا جمل.
تسمرت قدماه أمام عينيها وشلت أطرافه،واغتالت نظراته كل تفاصيل وجهها وشعرها وجسدها وثوبها الأحمر القانى بلون الدم والذى تدفق عبر شرايينه الجديدة ، وامتدت عينه النهمة كذلك إلى تفاصيل الحى العتيق المرسوم بدقة خلفها وقد حمل رائحة الوطن والدفء فانتشى فؤاده وسكن.
لم يدرك حينئذ ما أصابه، ولم يستيقظ من نوبته إلا وهو يهرول سريعا خارج المتحف ،لم يسرق شيئا ذلك اليوم سوى بعضا من نظرات الفتاة الحزينة وقسطا من سعادة وطمأنينة لا يعرف سببهما ولكنه يعرف جيدا أنه لم يختبرهما منذ أمد بعيد .
نعم إنه يدرك أن اللوحة ربما كانت من خيالات المبدع الغامض ،ولكن بالنسبة له على الأقل كانت الفتاة واقعا والمكان موجودا ،والزمان و الشعور جد حقيقي .
وفى الصباح الباكر استيقظ (نبيل) بعد نوم عميق مطمئن لم يألفه منذ سنوات صعبة موحشة مرت عليه مؤخرا كأسوأ ما تمر السنون ،استيقظ سعيدا وحذرا وهو لا يألو على شئ سوى إدراك فتاة المتحف والبحث عن حيها القديم.
ولم يعد يهتم بالسرقة أو تهتم به.
لقد حررته اللوحة والفتاة من أسره.
وغمرته الألوان الطاهرة القديمة بالحب الجديد.
والحب وحده الآن يكفيه..

الفكة باسنت مدحت


 الفكة

كنت في نهاية الشهر، أردت أن أسحب بعض المال من مدخراتي، ضغطت على الرقم الخاطئ ..
قلت: لا بأس سأودعه الآن في إحدى الماكينات، احتجت لبعض الفكة، سألت أكثر من بائع وكانوا أصحاب السوبر ماركت ولم يكن معهم فكات، حتى مررت ببائعة الخضار، سمينة، سمراء اللون، عبث الكحل بعينيها فصارت كأنها وضعت وحلا على وجهها، كانت عبوساً للغاية لم أعلم هل بسبب الطقس الحار أم كانت في خضم شجار ما!
أخبرتها: هل معك فكة لمائتين جنيها؛ أنا أريد مائة ومائة اذا سمحت.
صرخت فيني، وكنت أظن أن باعة الخضار يمتلكون وفير من المال وخاصة أن اليوم هو السوق في البلدة التي أعيش فيها.
صاحت، كأنها توبخني: لا يوجد مائة ولا مائتين.
لا أنكر أنني فزعت من صوتها العالي لوهلة قصيرة للغاية، ثم ابتسمت، لا أعرف لماذا فعلتها!
هل أردت المزاح أم تجاهلها أم التخفيف عنها؛ لكنني قلت ربما لا تقصد ما فعلته!
تجاهلتني، وواصلت البيع.
بقيت أبحث عن الفكة، لا أعلم لماذا اختفت الفكات فجأة؛ كنت أريد أن أعيد المال بشدة قبل أن تختفي في التفاهات ..
تأففت، سئمت البحث، أجلت البحث عنها لوقت آخر، ذهبت إلى عملي، وأنا أفكر وأحمل العبء وكنت أقول لنفسي لا بد أن أعيد المال بطريقة أو بأخرى، مدخراتي صارت قليلة.
انتظرت ساعة لعل المحلات كسبت رزقها، ثم سألت عن الفكة ولم أجدها مرة أخرى، مررت بالبائعة وكان حولها زحام، قلت في نفسي: الآن سأجد ما أريده.
صاحت مرة أخرى كالمجنونة: أتيت مرة أخرى!
نظر إلي المشترين كأنني شحاذاً ما، هالني الصمت من هول ما رأيت، ثم تركتها ولم أرد عليها، بكيت في الطريق، بقيت أكلم نفسي وأتخيل أنني أوبخها بشدة، ويعلو صوتي، ويتدخل الناس حتى أهدأ.
ذهبت إلى إحدى الماكينات، أصابني الإحباط، أودعت كل ما معي، لم أعد إلى العمل، ذهبت إلى المنزل على أقدامي رغم بعد المسافات، وبقت تلك المرأة عالقة في ذهني وأفكر في الفكات اللعينة التي اختفت فجأة، قررت أن أواجهها وأسترد حقي.
مررت بها في اليوم التالي، بينما أتمشى كنت أعد الكلام الذي سأقوله لها، وأفكر في الطريقة الصحيحة لأعنفها، وصلت إليها، وقفت دقيقة، ثم نظرت إليها؛ وهي تبيع وتوبخ المشترين، كان قلبي يدق بسرعة، حتى اقتربت منها، نظرت إلى بعيون مليئة بالغيظ، كادت أن تقول شيء ما، لكنني تركتها كأن شيء لم يكن!
باسنت مدحت

بَرْزَخ قصة قصيرة بقلم : خالد الرقب - الأردن


 بَرْزَخ

تَحْتَ أذيالِ الدُّجَى ، أظهرً أحْاسِيسَهُ وعواطِفَة في رَعَشَاتِ ريْشَتِه ، وهو ينقلُ صُورةَ أُمِّهِ المَيْتَةِ حديثاً ، أمْسَكَ خَيالُه بلحظةِ التقاءِ الفَنّانِ بالعالم الذي تَسْتَقرُّ فيْهٍ صَاحبةُ الّلوحةِ ، وفي فعلٍ أُسْطُورِيٍّ تجاوزَ معنى الحياةِ والموتٍ .
كانت عقدةُ الصِرّاعِ بين الحياة والموت في الواقع ولكنها في سياق الأسطورة هي قطعية بينَ ما هو شعوريٌّ وما هو لا شعوريّ " ، هكذا قرأً في الأساطيرِ العراقيّةِ القديمةِ " العالمُ السُفليِّ مكانٌ مظلّمٌ لكنِّ الشّمسَ كانت تقضي الّليلَ هناكَ ، وأنَّ القَمَرَ يَنْحدرُ إليه في كلٍّ شهرٍ ." هذا التَضادُ عَمِلَ على فَسْخٍه؛ ليستقرَ هو في جانبٍ مِن جوانبِه ، أوغلً في فضاءٍ كَونيٍّ لايمثلُّ ماهو محسوسٌ فحسب بل محسوسٌ وروحيّ ، وصورةُ والدتُه مختزلَةٌ في شكلٍ مُحَوّرٍ عنْ الشَكْلِ الطبيعيِّ ، بِناءٌ مرئيٌّ ولا مرئيّ في الوقتِ نفسِه نزوليٌّ - تصاعديٌّ .
من صُلبِ التناقض ِتَولًّدَ الانْسجامُ الذي يحققُ الطَمأنينةَ بدتْ الّلوْحةُ التي رسمها سطحاً تصويريّاً ، وبُقْعةً لونيَّةً تَعْكِسُ مايراهُ وما يفكرُ فيه في آنٍ واحدٍ ( سُرْيالِيَّة ) .
عند النهاية رَسمَ شريطاً أسوداً على زاويتها اليُسرى؛ فالأسود لونُ الموتِ هذا ما دَرَجَت عليه العَادة ُ، أدارَ ظهرَه ؛ داهمَه التِيْه عندما انقدحَ في خاطرِه أنًّ أمَّهُ من أهلِ الصَلاحٍ والتَقوى؛ فهي حيَّة في الجنة .
تناول ريشتَه ورسَمَ على الزاويةِ العلويَّةِ اليُمنى شريطاً أبيضاً ، كرمزٍ
للحياةِ وعلى الزاويتينِ السفليتينِ رسمَ شريطينِ أحدهما أزرقٌ لازورديِّ ؛ رمزاً لتكاملِ الدورةِ بينَ الحياة ِوالموتِ بجذورهما اللاواعيَّةِ للفكر ِ الدينيّ ورمزاً للهواءِ وللماءِ والقِوى الطبيعيَّةِ والآخرُ أخضرٌ رمزاً للجنّةِ .
أنهى لوحتَه برسمِ قلادةٍ ذهبيَّةٍ مُحمَرَّةٍ حولِ عُنقها رمزاً لشمس ِ أمِّه التي لنْ تغيبَ تأمَّل الّلوحةَ طويلاً رأى فيها الحَركةَ والسُكون ، َرمى ريْشتَه تاركاً للجمهورِ إدارة الحوارِ بين الحَركة ِوالسكونِ ، أما هو فتنكرَّ لذاتِه زاهداً واتجه إلى اللهِ كأنَّما أصبحَ متصوفاً.....
قصة قصيرة بقلم : خالد الرقب - الأردن

بقلم / محمد محمود غدية فتاة الإعلان قصة قصيرة


 قصة قصيرة :

بقلم / محمد محمود غدية
فتاة الإعلان
وجه المدير مليء بالغضب الذى لو وزع على الكون كله‏ يكفى ويفيض‏، وهو يطلب منه ملف زميله حسنى لتحويله للشئون القانونية لغيابه المفاجئ‏ دون تقديم إخطار مسبق بالأجازة‏،
ماذا يفعل حسنى أمام مرض إبنته ؟‏
هل كان يمكن التنبؤ بالمرض قبل وقوعه ؟
تباطأ فى تقديم ملف زميله‏ حتى تهدأ ثورة المدير‏ الذى ما لبث أن إستشاط غضبا، حين لم يجد الملف على مكتبه‏، طالبا تحويله هو الآخر للشئون القانونية‏، ظلم بين‏ لا أحد يجرؤ على مناقشة المدير‏،
فى الظهيرة يتقلص رواد المقهى، إختاره مقعد متهالك مثله ليحتوى حزنه‏، ومنضدة نظفت حديثا‏‏،
أشعل آخر سيجارة فى العلبة التى كومها وألقى بها خارج المقهى،
فى وجه المدير الذى تمنى وجوده فى تلك اللحظة‏،
يحدق فى فتاة الإعلان، فوق لافتة مواجهة للمقهى، يريد أن يحفظ ملامحها‏، جميلة تبدو عليها آثار النعمة‏ مغسولة من الهموم والأوجاع‏،
تتسكع ذاكرته وتذوب خلف طيات الأيام، ولحظات الزمن المتراكم‏،
أين له بمثل هذا الوجه الأبيض رهيفة الملامح ؟
وذلك الشعر الناعم المنسدل‏، كأنها قادمة من أغلفة المجلات الفنية‏، لابد وأنها واجهت الكثير من إنتقادات ورفض أسرتها‏، لتكون فتاة إعلان أو موديلز‏، فهذه مهن لا يباركها المجتمع‏ لكن شجاعة الفتاة فى إقناع أسرتها‏، وإقتحامها ذلك المجال‏، جرأة تحمد عليها‏ لم يعد يراها‏، أحاطت به هالة من ضباب مصفر غير صاف‏، حين باغته وجه المدير الذى غطى مساحة الإعلان، مئات الحشرات الصغيرة‏ تفترس روحه اللينة‏، موجة عاتية قذفت به نحو رمال شاطئ مجهول‏، إنتبه لصوت النادل وهو يصب القهوة فى الفنجان‏، غامت المنضدة وما فوقها،
شاركته القهوة السكون المطبق المقبض‏،
قرر مواجهة المدير‏ : إنه لايقل شجاعة عن فتاة الإعلان‏، كان لابد أن يأخذ بالأعذار،
تحويله وزميله للشئون القانونية ظلم بين‏ !
لا وجود لقلعة تتعرض للهجوم يوميا‏، مهما كانت حصينة، إلا وتنتهى إلى السقوط يوما‏، لا يهم أن يكون الأول فى بدء الهجوم‏، المهم المواجهة‏، الإستسلام للظلم‏ مهانة أشد‏،
أحس وهو يغادر المقهى، بأن الأحزان بدأت تفارق قلبه شيئا فشيئا‏، لم ينس أن يلوح بيديه لفتاة الإعلان التى بادلته الإبتسام، بعد أن ألقت إليه بوشاح الشجاعة‏ .

رجل من الماضي بقلم / ناجح صالح


  رجل من الماضي 
بقلم
ناجح صالح

ان كنت أذكر من عهد الطفولة فأذكر أنها كانت طفولة ممتعة , وأغرب ما فيها مشهد رجل لا يشبه أحدا ولا يشبهه أحد كأنما ولد من رحم غول , عريض المنكبين ممتليء القامة , شعره المخضب بالمشيب ينسدل على كتفيه , له فم واسع وعينان كعيني ذئب مع حاجبين كثيفين . أما لباسه فكان قصيرا لا يعدو الركبتين قاتما مرقعا , بينما بقيت قدماه عاريتين في قيظ وبرد .
لم يكن هذا الوحش سوى متسول يدخل الزقاق قبل الظهيرة وقبل العشاء , يطرق الأبواب طرقات ثقيلة توقظ النيام , ولم تكن له لغة يتحدث بها الا أنه يطلق أصواتا مبهمة .
كانت في يده عصا غليظة على الدوام يتقي بها من يريد ايذائه لكنه نادرا ما يفعل ذلك , ألفه أهل الزقاق فلم يعد يخشاه أحد بيد أنهم كانوا على حذر من المزاح معه خوفا من غضبه , فهو اذا ما غضب لا يقوون عليه مجتمعين .
وحينما يزاول الصبية لعبهم ومرحهم يمر هو من بينهم دون اكتراث من جانبه بينما يكتفون هم بالابتسامة والاشارة دون وجل .
من أين منبته ومن أين جذوره ؟ لا أحد يعرف اذ لم تكن له أسرة ولم تكن له دار , ينام في العراء في مكان مهجور في أقصى المدينة .
ولعل أغرب ما في الصورة أن السن التي كان عليها الرجل تجاوزت الثمانين , هكذا يخيل لمن يراه الا أنه رغم ذلك كانت له قوة غير عادية , يسير بخطوات أشبه بالهرولة , عجبا كيف تسنى له هذه القدرة على البقاء بل الصمود في زمن كان الفقر سمته وطابعه .
وما أذكره عن المتسول الذي يثير العطف والرثاء معا في تلك الطفولة الممتعة اننا كنا نرتاح بمقدمه رغم هيئته البشعة ولعلنا كنا نتعاطف معه وربما أحببناه , اذ أصبح جزءا من مشهد اعتدنا عليه كل يوم , وهو حينما يغادر الزقاق حاملا على كتفه متاعه بل قوته الذي جمعه كنا نهمس بحسرة على بؤسه ووحدته وغربته , أجل كان يراودنا هذا الشعور في ذلك العهد .. شعور بالألم والمرارة نابع من الأعماق .
ولقد أحزننا فيما بعد أننا افتقدنا الرجل أياما متتالية في الوقت الذي لم يغب عنا قبل ذلك يوما طيلة أعوام , ترى فيم غيابه وما الذي استجد , هل أصابته علة وهو القوي ؟
وجاءتنا المفاجأة التي هزت قلوبنا الغضة وأبداننا الطرية , جاءت المفاجأة بموته في العراء وحيدا بائسا مشردا , دون عزاء من أحد , غير أننا نحن صبية ذلك الزقاق افتقدناه وطالما ذكرناه حينما بلغنا مبلغ الرجال .
وما تزال حكايته حكاية نرويها لأحفادنا تسلية وعبرة .

العَجوزُ الشّمطَاءُ ... بقلم : فريد المصباحي/ المغرب


 العَجوزُ الشّمطَاءُ ...

إتّجَهتْ نَحوي تَخطُو خُطوةً وتقِفُ أخرَى ، تَمشي ببُطءٍ ، إحدَى فردَتَيْ نَعليْها مُقطّعةٌ ، نِصفُها ذَهبَ ، تَحملُ كيساً تبدُو عليه أثارُ الإهمالِ والتّمرُّدِ والتّشرّدِ ، شعرُها إلى الشّيبِ مائلٌ ، عَينُها اليُسرى جاحِظةٌ ، وقَفتْ هُنيهةً تتَأمّلُني ، إنتَابَني خوفٌ ملأَ جوارِحي ، إرتعَشتْ رُكبتَايَ ، خفقَ قلبي خَفقانَ الهاربِ من الأسدِ ، خِلتُها سائلةٌ أو عابرةُ سبيلٍ ، وقفتُ وقفةَ جُنديّ يَستَعدّ لأيّ هُجومٍ مِن مسَافةِ صِفرٍ ...
وضعتُ يَدايَ على صَدري أترقّبُ ردّةَ فعلِها بعد أن صارَحتُها أنه ليسَ لديّ ما قد تَطلبُهُ مِن مُساعدةٍ مهما ضؤُلَتْ ، إستَغلّت خَوفِي وتَرقُّبي وتوجُّسي ، لتَنقضّ عليّ بكِلتا يديْها ثمّ شلّتْ قوّتي ، حاولتُ أن أتخلّصَ منها ، لكنّها كانت لي بالمِرصادِ ...
لم أستَطِع الإنفكاكَ منها ، تَمكّنتْ منّي ، وكأنّنِي بين فَكّي كمّاشةٍ ...
حاولتُ جاهداً التَّخلّصَ من قبضَتِها ، زادتْ قوّتُها ، وضعُفت قوايَ ، أحسَستُ وكأنّني فريسَةٌ ، زُرعَ في جِسمي سُمٌّ شَلّ جوارِحي ولم أعُدْ أقدِرُ على الحَركةِ ...
صرخْتُ بأعلى صوتِي ، أستَغيثُ لعلّ أحداً يسمعُ ندائِي في تلكَ اللحظةِ العَصيبةِ، لم يتَجاوزْ صُراخي حُنجُرَتي ، وبدأتُ أتَمتِمُ بكلماتٍ مُتَقطّعاتٍ ، وأتلُو آياتٍ من الذّكرِ الحكيمِ ، فلم يجدِ ذلكَ نفعاً ، توهّمتُ أنّها جِنّيّةٌ ، من عالمٍ آخرَ !
شمَمتُ فيها رائحةً كريهةً لا تَقبَلها طبيعةُ الإنسانِ ، تزكمُ الأنوفَ ...
زادَ صُراخِي ، وهي تعصُرُني ، تجُرّني إلى مكانٍ ضَيِّقٍ شبهُ مظلمٍ ، وبِشِقّ الأنفُسِ ، أخرَجتُ يَديّ من بينِ يَديْها ، خنَقتْني بصَدرِها المُتعَرّقِ ، أمسَكتُ وجهَها أدفعُها لأبعدَها عنّي ، ضغطْتُ على عينِها الجاحظةِ حتى كِدْتُ أفجّرُ مُقلتَها ، فٱبتعَدتْ عني قليلاً ، حينئذٍ شعَرتُ بثِقلِها يَضعُفُ ، بدأتُ أتنفّسُ بيُسرٍ .
وبعدَ لحظةٍ إختَفتْ ولم أجدْ لها أثراً ...
سقطتُ أرضاً ، والعبراتُ تَخنُقني ، وركبتايَ ترتَعشانِ ، وقلبي يدقّ بسرعةٍ وبِصعوبةٍ قمتُ من تِلك الإغماءةِ لأجدَ أُناساً لا أعرفُهم تَحلّقواْ حَولي يَتَحَوْقَلُونَ !!!
بقلم : فريد المصباحي / المغرب

حرب باردة أريج الحمدي تونس

 حرب باردة

في لحظة غير معلومة تنشب حرب من أكثر الحروب دمارا وفتكا قد يمكن أن تصيب الإنسان، حرب مضمرة من الجميع، الجميع كان سببا في تأجيج لهيبها وزيادة سعيرها، كل متورط فيها، لم يكن ذنبه غير أنه تساهل في التعامل مع عالمه الخارجي، لم يأبه قطعا للذئاب المتوحشة التي تعم المكان ولا لأصحاب الأقنعة... كان صديق وسند للجميع، لم يخذل أحدا ولم يهجر أحدا، لم ينقض عهدا، لم يهدم سعي وأحلام أحدهم، كذلك لم يخيّب أمالا، يطل بإشراقيته البهية وعلى ثغره قد ارتسمت ابتسامة جذابة تشد الحشد إليه، بحلوله تعم البهجة المكان، وتسعد الأعين برؤياه، وتعذب الآذان لصوت تلقاه، وتشدو الأصوات بنعيم الحديث، الجميع في تنافس لنيل اعجابه وإثارة انتباهه... وكيف لرجل أعمال متواضع مساعد للجميع محسن لمحيطه أن ينبذ؟ كيف لرجل وسيم مثله أن يكره؟ وإذ كان الحال فيه ضربا من الواقعية فإنه لا يبشر بالخير الباتة، كل ما يتبادله الجميع من أحاديث وأخبار لم تكن توحي للسامع بغير أن ذاك الرجل ملاك يمشي على الأرض، والمعلوم أن الإنسان مهمى بلغ من الزهد مراتبا لن يكون ملاكا وإنما إنسان جيد... انقلبت الموازين فأصبح ملاك الجميع شيطانا كريها، بغيضا، حقودا على يعني جنسه... ليس ما في الأمر غير أنه وقع من العلا في المحيط غير الملائم، فقد ثروته وجاهه بين أناس عملتهم المال، والكثير من المال، وميثاق صداقتهم من وهن قد نسج... فقد الجميع دون ذنب فقط لأنه عادلهم مالا وعلاهم أخلاقا، حقيقة ليس من السهل على الإجتماعي أن يتكيف مع الوحدة مرغما، ولا أن يفقد مكانته بين ليلة وضحاها، كانت فترة من أصعب فترات حياته، شهد فيها الأسى والحزن بألوانه الدامسة، كان يتألم بشدة في شيء من الإستياء، لم ير حلا مناسبا غير مغادرته المدينة، مغادرة العقول الصغيرة، مغادرة وهجر ما يقيده ويكبل سعادته ويمنعها عن الخروج... وما حدث كان خير قرارا، وجد نفسه بعد الإحباط والخوف إنسانا مختلفا تماما، يحركه دافع الشغف والأمل، وجد قوة في باطنه لم يشعر بها من قبل ليس أنه لم يعتد على الكفاح وإنما لأنه كان يجهل قيمة ذاته واِستسلم إلى النمامين وسمح لهم بتدميره، اِكتشف مؤخرا أنه كان من الضروري تغيير نمط حياته، وأن الحياة تستحق المجازفات وبعضا من الجنون، اكتشف أن لكل إنسان محيط خاص يمكنه من النمو والتحليق عاليا والمضي قدما... ليس مهما ما مر به من عثرات بقدر أهمية فوزه على تلك الحرب المضرمة في قلبه، كخطوة جريئة قد أغلق جميع نوافذ الضعف، وقتل الذكريات ببشاعتها، ليس سهلا اخماد نار حرب كاملة بوجود تلك العتبات والعثرات... ليس سهلا إعادة نبض قلب ميت، إعتاد الحزن والكآبة... لكن لابأس، الحياة تستحق المجازفة ببعض الأحاسيس، بعض الأشخاص والكثير من الذكريات، إنما تستحق الجنون وإطلاق العنوان للِاندفاع... لا يعرف نكهة الحياة إلا من جازف وغامر وقلب الموازين لصالحه، وحول الفشل إلى قوة ونجاح، والإحباط إلى أمل، واليأس إلى تفاؤل...
أريج الحمدي
تونس

عمـّو الشرطي سامي نعسان آغا، سوريا


 قصة قصيرة 

عمـّو الشرطي

الشرطي أيام الستينات من القرن الماضي، يختلف بالطبع عن شرطي القرن الواحد والعشرين. ليس فقط في موضوع الـ 25 ليرة، إذ لا فرق كبير إذا وضعنا في الحسبان سعر الصرف في أيامنا هذه، وإنما في مواضيع أهم. كان شرطي الستينات له صولةً وجولةً، وله سطوةً قانونيةً، يهابه الكبار قبل الصغار. في أحد الأيام كانت أم محمد تتجول في سوق الخضار، معها ابنها محمد، بعمر 5 أو 6 سنوات، (حمّودي،) كما تناديه أمّه، مدلل، صبي على 5 بنات، كلمته عند أبيه ما تصير كلمتين، كان يبكي بدموع سخيّة وأنف يسيل، يرفض أن يمشي، مجحرناً، كما نقول في إدلب، يشد ملاءة أمه السوداء ويصيح بها أن تشتري له لعبة. لكن ما تبقى معها من نقود بعد شراء لوازم طبخة اليوم لم تكن كافية. إذ أن أبو حمّودي لم يوفّق اليوم حتى منتصف النهار سوى بنقلتيّ ماء، ينقل الماء على ظهر دابته إلى البيوت في صفائح من تنك، من الحنفيّات العامّة في ساحة البازار، وقد قلّت مؤخراً أعداد زبائنه لأن بعض الناس، كما يردد دائما أبو حمّودي، (ما عاد يعجبهم نقل الماء، صاروا يجيبوه على بيوتهم في بواري حديد). عجزت أم محمد عن إسكات ابنها، ماذا تفعل؟ رأت الشرطي قادما باتجاهها، ببذلته الكاكي ذات الأزرار النحاسية اللمّاعة، وعلى رأسه قبعة من نفس لون البذلة، والمسدس الحكومي على خصره، نظراته صارمة وملامحه جادة. وجدت أم محمد فرصة للاستنجاد بالشرطي من أجل إسكات الصبي. صاحت:
ـ يا عمّو الشرطي تعال خذ حمودي عالحبس لأنه عمّا يعذّب أمه.
التفت الشرطي ونظر باتجاههما، استوعب الموقف، وعلى غير عادته ابتسم في وجه الصبي، هو أيضاً عنده ولداً آخر العنقود، من عمر حمّودي تقريباً، ويعرف كيف يتعامل معه. قال له مداعباً:
ـ ليش يا حبيبي يا حمّودي عمّا تعذّب أمّك؟ مو أنت شاطر وحباب؟
جلس الشرطي القرفصاء، أصبحت عيناه بمستوى عينيّ الصبي، الذي بقي متمسكاً بملاءة أمه السوداء، متمترساً خلفها، ينظر في حيرة ممزوجة بالخوف، يحاول التنبؤ بما سيفعله هذا الشرطي. خلع الشرطي قبعته ووضعها مداعباً على رأس الصغير، ثم نظر إليه وقال:
ـ يا سلام، يلبق لك يا حمودي يا عين عمّك أن تصير أحسن شرطي.. (سكت، فكّر أنه لا يريد لهذا الصبي أن يصبح شرطياً بائساً براتب 180 ليرة سورية، لا تكفيه لإطعام نصف دزّينة أولاد مفاجيع، يأكلون شعر الرأس، مثل أولاده). يلبق لك أن تصير أحسن رئـيس.. (ولم يشأ له أن يصير رئيس مخفر، كان يكره معلّمه لأنه يعامله بفوقيّة، (تعال يا شرطي خذ بابور الكاز من عند المصلّح وديه البيت، وشوف معلّمتك شو لازمها أغراض،) أنا عندي خدمة 20 سنة، ونصف دزينة أولاد، أعمل خادماً لرئيس المخفر!
لثوانٍ تخيّل أنه يخاطب ابنه، آخر العنقود، (لا، لن أقبل لهذا المسكين أن يكون مستقبله في سلك الشرطة). وجد نفسه يقول من غير تركيز:
ـ يلبق لك يا حمّودي يا عين عمّك، أن تصير أحسن رئيس جمهورية وتحكم العالم.
بنفس اللحظة كان، ولسوء حظ عمّو الشرطي، يمرّ بقربهم صدفةً، مُخبرٌ يعمل لصالح الجماعة له خط رقعي جميل، سمع الحديث.
أثناء محاكمة الشرطي، وَجَّه إليه النائب العام العسكري، تهماً لو تمّ تصديقها من الحاكم العسكري، لأدّت إلى الحكم عليه بالإعدام. وُجِّهت إليه تهمة التآمر لقلب نظام الحكم، وتغيير رئيس الجمهورية بالقوّة، وإشاعة الفوضى في البلاد، بمساعدة شركاء له هاربين ويتمّ البحث عنهم، خاصة المدعو حمّودي المجهول الهويّة، كما ورد في محضر اعترافات الشرطي، المدعو محمود محمد الحسين، والدته نزهة، من قرية تل بشمارون، المدوّنة في التقرير المرفق، والموقَّع عليها من قِبَله، أثناء التوسّع معه بالتحقيق في القبو.
ملاحظة: أي تشابه بالأسماء في هذه القصة، يكون محض صدفة، من خيال المؤلف.
سامي نعسان آغا، سوريا
اللاذقية 25 September 2015

مشاركات الأعضاء

قدر العرب للشاعر متولي بصل

    قدْرَ العربْ متولي بصل مصر *** غدا يعرفُ الناسُ قدْرَ العربْ وأنَّ العروبةَ  مثل الذهبْ وأنَّ البلاءَ على قدْرِها عظيمٌ وكمْ منْ بلاءٍ ح...

المشاركات الشائعة